الدنوُّ في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى﴾
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
استوقفتني فقرة من دعاء الندبة وهي ".. يَا بنَ مَن دَنا فَتَدَلّى فَكانَ قابَ قَوسَينِ اَو اَدنى دُنُوّاً وَاقتِراباً مِنَ العَلِيِّ الاعلى .."(1) ألا يحتوى ذلك على تجسيم للذات الإلهيَّة؟ فربُّ العالمين لا يحدُّه مكان، فإذا اقترب أحدٌ منه يعني هو في مكان حسب المقطع أعلاه.
ارجو التوضيح
الجواب:
كلمة "دنواً" مفعول مطلق -مصدر- للفعل "دنا" وكلمة "واقتراباً معطوف عليه بعطف التفسير، فالدنو والاقتراب بمعنىً واحد، وسيق لغرض التأكيد لبيان أنَّ الدنوَّ والقرب كان شديداً.
وليس المراد من الدنوِّ والاقتراب الدنوَّ والاقتراب المكاني، وإنَّما المراد منه الدنوُّ والاقتراب المعنوي تماماً كما هو المراد من القرب في مثل قوله تعالى: ﴿وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا﴾(2) وكما هو المراد منه في قوله تعالى:﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ﴾(3) وقوله تعالى: ﴿وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ﴾(4) وقوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيد﴾(5) وقوله تعالى: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ﴾(6) فالقُرْبُ في تمام هذه الآيات هو القُرْب المعنوي وليس هو القربَ المكاني.
ويكفي شاهداً قطعيَّاً على ذلك هو العلم بأنَّ الله تعالى منزَّهٌ عن المكان، فإنَّ التحيُّز في مكانٍ من شؤون الأجسام، والله جلَّ وعلا منزَّه عن التجسُّم كما هو ثابت بالبراهين القطعيَّة، فمِن هذه القرينة يُعلَم أنَّ المراد من الدنوِّ والاقتراب من الله تعالى هو الدنوُّ والاقترابُ المعنوي، فكما أنَّه لو قال أحدُهم: جالستُ أسداً وتجاذبتُ معه أطراف الحديث، فإنَّ المتلقِّي لهذا الكلام يَعلم أنَّ مُراد المتكلِّم مِن الأسد هو الرجل الشجاع، إذ أنَّ الأسد الحقيقيَّ لا يُجالَسُ ولا يُتجاذَب معه أطرافَ الحديث لأنَّه بهيمة، فمِن هذه القرينة يُعلَم أنَّ مقصود المتكلِّم من الأسد هو المعنى المجازي، كذلك هو الشأنُ في المقام، فلأنَّ مِن المعلوم المقطوعِ به هو استحالة القرب المادِّيِّ المكانيِّ من الله جلَّ وعلا لذلك يُعلمُ بواسطة هذه القرينة أنَّ مقصود المتكلِّم من الدنوِّ والاقتراب من الله تعالى هو الدنوُّ والاقترابُ المجازي والذي هو القرب المعنوي.
ولهذا ورد -كما في الأمالي- للشيخ الصدوق بسنده عن أبي حمزة الثمالي ثابت بن دينار قال: سألت زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام) عن الله جلَّ جلاله: هل يُوصف بمكان؟ فقال (ع): تعالى اللهُ عن ذلك.
قلتُ: فلِمَ أسرى بنبيِّه محمد (صلى الله عليه وآله) إلى السماء؟ قال: ليُريه ملكوتَ السماوات، وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه.
قلتُ: فقول الله عزَّوجل: ﴿ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى / فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى﴾؟ قال: ذلك رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) دنا من حُجُب النور، فرأى ملكوتَ السماوات، ثم تدلَّى (صلَّى الله عليه وآله) فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظنَّ أنَّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى"(7).
فمفاد الرواية أنَّ النبيَّ الكريم (ص) دنا من حُجب النور والذي هو من شؤون المعنى وليس من شؤون المادَّة المتحيِّزة في مكان، فالاقتراب من حجب النور تعبير آخر عن بلوغه (ص) أقصى مراتب الكمال المعرفي بالله تعالى والذي هو محجوب عن كلِّ أحدٍ غيره صلَّى الله عليه وآله. فالنبيُّ (ص) إنَّما دنا من كمال المعرفة بالله تعالى ولم يدنُ من ذات الله تعالى الله عن ذلك علوَّاً كبيرا.
ولمزيد من التوضيح راجع ما ذكرناه في مقالنا: إذا كان اللهُ ليس في مكانٍ .. فلماذا المعراج؟
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
24 / ربيع الثاني / 1446ه
28 / اكتوبر / 2024م
1- المزار -المشهدي- ص580.
2- سورة مريم / 52.
3- سورة البقرة / 186.
4- سورة سبأ / 50.
5- سورة ق / 16.
6- سورة الواقعة / 85.
7- الأمالي -الصدوق- 214، علل الشرائع -الصدوق-ج1 / ص132.