لماذا ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ وليس من بعد عيسى
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآَنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ / قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(1).
لماذا قالت الجنُّ: ﴿مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ ولم تقل من بعد عيسى؟
الجواب:
الآيةُ لا تتحدَّث عن عامَّة الجنِّ وإنَّما تتحدَّثُ عن نفرٍ ألقى اللهُ تعالى في رَوعهم أن يقصدوا النبيَّ الكريم (ص) ليستمعوا منه آياتٍ من القرآن فحضروا في محضرِ النبيِّ الكريم (ص) وتواصوا فيما بينهم أن ينصتوا لقراءة النبيِّ (ص) وبعد أن استمعوا لشيءٍ من القرآن المجيد ذهبوا إلى قومِهم مُنذرين، فكانوا فيما قالوه لقومِهم أنَّهم سمِعوا كتاباً أُنزل من بعد موسى.
فالذين استمعوا القرآن من لسان النبيِّ الكريم (ص) كانوا -بحسب الآية- نفراً يعني لا يتجاوز عددهم العشرة، إذ أنَّ النفر من الرجال لا يقلُّون عن الثلاثة ولا يتجاوزون العشرة، فلعلَّ هؤلاء النفر من الجنِّ لم يكونوا مطَّلعين على كتابٍ آخر غير التوراة أُنزل من بعد نبيِّ الله موسى (ع) ولهذا قالوا: ﴿يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى﴾ فهم إنَّما يُخبرون بما يعلمون، وعدمُ علمهم لا ينفي نزول كتابٍ من بعد موسى قبل القرآن.
ولعلَّهم كانوا مطَّلعين على كتابٍ أُنزل مِن بعد موسى قبل القرآن ولكنَّ قومهم لم يكونوا مطَّلعين على ذلك أو لم يكن قومُهم يؤمنون بغير كتابِ موسى (ع) ولذلك رأوا من المناسب إغفال الإشارة إلى عيسى وما أُنزل عليه، لأنَّ غرضهم كما يظهر من مساق الآيات هو الدعوة إلى الإيمان بالقرآن، فكان مِن المناسب عدم الدخول مع قومهم في جدلٍ حول أمرٍ لا يعلمونه أو لا يؤمنونَ به، فالمناسب للوصول للغرض هو تنظير القرآن بما يُؤمنُ به قومُهم وهو التوراة الذي أُنزل على موسى (ع).
ثم إنَّ عدم اطِّلاع هؤلاء القوم من الجنِّ على ما أُنزل على عيسى (ع) أو عدم إيمانهم بما أُنزل على عيسى (ع) لا يعني أنَّ عامَّة الجنِّ لم يكونوا مطَّلعين أو مؤمنين بما أُنزل على عيسى (ع) فالآياتُ إنَّما تتحدَّث عن قومٍ من الجنِّ كان النفر الذين استمعوا القرآن ينتمون إليهم، فلعلَّ الأقوام الأخرى من الجنِّ الذين لم تتحدَّث عنهم الآيات كانوا مطَّلعين أو كانوا مؤمنين بعيسى (ع) ولكنَّ الآيات لم تكن بصدد الحديث عنهم. فالآيات إنَّما تتحدَّث عن واقعةٍ محدَّدة جاء فيها نفرٌ من الجنِّ فاستمعوا القرآن من النبيِّ (ص) ثم انصرفوا إلى قومِهم الذين ينتمون إليهم فأنبئوهم بما استمعوا. فهي لا تتحدَّث عن عامَّة الجنِّ.
وثمة احتمالٌ لعله كان هو منشأ عدم الإشارة لما أُنزل على عيسى (ع) من قِبَلِ هؤلاء النفر من الجنِّ، وهو اعتقادهم أنَّهم لم يكونوا معنيين بما أُنزل على عيسى (ع) وذلك لأنَّ نبيَّ الله عيسى (ع) بُعث لتصحيح التحريف والانحرافات التي أحدثها بنو إسرائيل، فالإنجيلُ لم ينزل لإلغاء أو نسخ ما جاء في التوراة، ولهذا مازال المسيحيون يعتقدون بحجيَّة ما في التوراة، غايته أنَّ التعاليم التي جاء بها المسيح (ع) إنَّما هي لتصحيح انحرافات علماء اليهود من بني إسرائيل، وعليه فلعلَّ منشأ اقتصار النفَرِ من الجنِّ على ذكر ما أُنزل على موسى(ع) هو اعتقادهم بأنَّهم غير معنيين بما أُنزل على عيسى (ع) ولعلَّهم يرون أنَّ التوراة التي بأيديهم لم يكن قد طالها التحريف وأنَّ الانحرافات التي ابتُلي بها بنو إسرائيل لا صلةَ لهم بها.
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
13 / شهر رمضان / 1446ه
14 / مارس / 2025م
1- سورة الأحقاف / 29-30.