مناقشة ادعاء نسخ آية: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) المائدة/42

 

 

" فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"(1).

 

وقد اختلفت الأقوال في هذه الآية الكريمة، فقيل: إنها محكمة لم تنسخ وقد أجمعت الشيعة الأثني عشرية على ذلك، فالحاكم مخير - حين يتحاكم إليه الكتابيون - بين أن يحكم بينهم بمقتضى شريعة الإسلام، وبين أن يعرض عنهم ويتركهم وما التزموا به في دينهم.

 

وقد روى الشيخ الطوسي بسند صحيح عن أبي جعفر عليه السلام قال: " إن الحاكم إذا أتاه أهل التوراة، وأهل الإنجيل يتحاكمون إليه كان ذلك إليه، إن شاء حكم بينهم، وإن شاء ترك "، وإلى هذا القول ذهب من علماء أهل السنة الشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطاء، ومالك.

 

وذهب جمع منهم إلى أن الآية المباركة منسوخة بقوله تعالى بعد ذلك: " فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم"(2).

 

وروي عن مجاهد أنه ذهب إلى أن آية التخيير ناسخة للآية الثانية.

 

والتحقيق: عدم النسخ في الآية، فإن الأمر بالحكم بين أهل الكتاب بما أنزل الله في قوله تعالى: " فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم " مقيد بما إذا أراد الحاكم أن يحكم بينهم، والقرينة على التقييد هي الآية الأولى.

 

ويدل على ذلك أيضا - مضافا إلى شهادة سياق الآيات بذلك - قوله تعالى في ذيل الآية الأولى: " وإن حكمت فاحكم بينهم بالقسط " فإنه يدل على أن وجوب الحكم بينهم بالقسط معلق على إرادة الحكم بينهم، وللحاكم أن يعرض عنهم فينتفي وجوب الحكم بانتفاء موضوعه.

 

ومما يدل على عدم النسخ في الآية المزبورة الروايات التي دلت على أن سورة المائدة نزلت على رسول الله - ص - جملة واحدة، وهو في أثناء مسيره.

 

فقد روى عيسى بن عبد الله عن أبيه عن جده عن علي عليه السلام " إن سورة المائدة كانت من آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنها نزلت وهو على بغلته الشهباء، وثقل عليه الوحي حتى وقعت ".

 

وروت أسماء بنت يزيد، قالت: " إني لآخذة بزمام العضباء ناقة رسول الله إذ أنزلت عليه المائدة كلها، وكادت من ثقلها تدق من عضد الناقة ".

 

وروت أيضا بإسناد آخر، قالت: " نزلت سورة المائدة على النبي صل الله عليه وآله وسلم جميعا إن كادت لتكسر الناقة ".

 

وروى جبير بن نفير قال: " حججت فدخلت على عائشة، فقالت لي: يا جبير تقرأ المائدة؟ فقلت: نعم، فقالت: أما إنها آخر سورة نزلت، فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه، وما وجدتم من حرام فحرموه ".

 

وروى أبو عبيد عن ضمرة بن حبيب، وعطية بن قيس، قالا: " قال رسول الله صلى الله عليه وآله المائدة من آخر القرآن تنزيلا، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها " وغير ذلك من الروايات الدالة على أن سورة المائدة نزلت جملة واحدة، وهي آخر ما نزل من القرآن، ومع هذه الروايات المستفيضة كيف يمكن دعوى أن تكون إحدى آياتها ناسخة لآية أخرى منها! وهل ذلك إلا من النسخ قبل حضور وقت العمل؟ ونتيجة ذلك أن يكون التشريع في الآية المنسوخة لغوا لا فائدة فيه، على أن بعض الروايات المتقدمة دلت على أن هذه السورة هي آخر ما نزل من القرآن، وإن شيئا من آياتها لم ينسخ.

 

المصدر:

البيان في تفسير القرآن، لزعيم الحوزة العلمية: سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.


1- المائدة/42

2- المائدة/ 48