مناقشة ادعاء نسخ آية: (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ)

﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(1).

فقد قال جماعة: إنها منسوخة بقوله تعالى ": ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾(2).

وذهب بعضهم إلى أنها مخصوصة بأهل الكتاب، فإنهم لا يقاتلون لكفرهم " وقد عرفت ذلك فيما تقدم.

والحق: أن الآية محكمة وليست منسوخة، ولا مخصوصة، وتوضيح ذلك: أن الكره في اللغة يستعمل في معنيين، أحدهما: ما يقابل الرضا، ومنه قوله تعالى: ﴿وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ﴾(3).

وثانيهما: ما يقابل الاختيار، ومنه قوله تعالى: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا﴾(4).

فإن الحمل والوضع يكونان في الغالب عن رضى، ولكنهما خارجان عن الاختيار، والقول بالنسخ أو بالتخصيص يتوقف على أن الإكراه في الآية قد استعمل بالمعنى الأول، وهو باطل لوجوه:

1 - إنه لا دليل على ذلك: ولا بد في حمل اللفظ المشترك على أحد معنييه من وجود قرينة تدل عليه.

2 - إن الدين أعم من الأصول والفروع، وذكر الكفر والإيمان بعد ذلك ليس فيه دلالة على الاختصاص بالأصول فقط، وإنما ذلك من قبيل تطبيق الكبرى على صغراها، ومما لا ريب فيه أن الإكراه بحق كان ثابتا في الشرع الإسلامي من أول الأمر على طبق السيرة العقلائية، وأمثلته كثيرة، فمنها إكراه المديون على أداء دينه، وإكراه الزوجة على إطاعة زوجها، وإكراه السارق على ترك السرقة، إلى أمثال ذلك، فكيف يصح أن يقال: إن الإكراه في الشريعة الإسلامية لم يكن في زمان.

3 - إن تفسير الإكراه في الآية بالمعنى الأول " ما يقابل الرضا " لا يناسبه قوله تعالى: ﴿قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾(5).

إلا بأن يكون المراد بيان علة الحكم، وان عدم الإكراه إنما هو لعدم الحاجة إليه من جهة وضوح الرشد وتبينه من الغي، وإذا كان هذا هو المراد فلا يمكن نسخه، فإن دين الإسلام كان واضح الحجة، ساطع البرهان من أول الأمر، إلا أن ظهوره كان يشتد شيئا فشيئا، ومعنى هذا أن الإكراه في أواخر دعوة النبي صلى الله عليه وآله أحرى بأن لا يقع لان برهان الإسلام في ذلك العهد كان أسطع، وحجته أوضح، ولما كانت هذه العلة مشتركة بين طوائف الكفار، فلا يمكن تخصيص الحكم ببعض الطوائف دون بعض، ولازم ذلك حرمة مقاتلة الكفار جميعهم، وهذه نتيجة باطلة بالضرورة.

فالحق: أن المراد بالإكراه في الآية ما يقابل الاختيار، وأن الجملة خبرية لا إنشائية، والمراد من الآية الكريمة هو بيان ما تكرر ذكره في الآيات القرآنية كثيرا، من أن الشريعة الإلهية غير مبتنية على الجبر، لا في أصولها ولا في فروعها، وإنما مقتضى الحكمة إرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإيضاح الأحكام ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة، ولئلا يكون للناس على الله حجة، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾(6).

وحاصل معنى الآية أن الله تعالى لا يجبر أحدا من خلقه على إيمان ولا طاعة، ولكنه يوضح الحق يبينه من الغي، وقد فعل ذلك، فمن آمن بالحق فقد آمن به عن اختيار، ومن اتبع الغي فقد اتبعه عن اختيار والله سبحانه وإن كان قادرا على أن يهدي البشر جميعا - ولو شاء لفعل - لكن الحكمة اقتضت لهم أن يكونوا غير مجبورين على أعمالهم، بعد إيضاح الحق لهم وتمييزه عن الباطل، فقد قال عز من قائل: ﴿وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّه مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾(7).

﴿قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ﴾(8).

﴿وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾(9).

المصدر:

البيان في تفسير القرآن، لزعيم الحوزة العلمية: سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.


1- البقرة/256

2- التوبة/73

3- البقرة/216

4- الأحقاف/15

5- البقرة/256

6- الانسان/3

7- المائدة/48

8- الأنعام/149

9- النحل/35