مناقشة ادعاء نسخ آية: (ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم...)

" ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير"(1).

فعن ابن عباس وقتادة والسدي، أنها منسوخة بآية السيف.

واختاره أبو جعفر النحاس.

وآية السيف هو قوله تعالى: " قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الاخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدوهم صاغرون"(2).

والالتزام بالنسخ - هنا - يتوقف على الالتزام بأمرين فاسدين:

الاول: أن يكون ارتفاع الحكم الموقت بانتهاء وقته نسخا، وهذا واضح الفساد، فإن النسخ إنما يكون في الحكم الذي لم يصرح فيه لا بالتوقيت ولا بالتأييد.

فإن الحكم إذا كان موقتا - وإن كان توقيته على سبيل الاجمال - كان الدليل الموضح لوقته، والمبين لانتهائه من القرائن الموضحة للمراد عرفا، وليس هذا من النسخ في شئ.

فإن النسخ هو رفع الحكم الثابت الظاهر بمقتضى الاطلاق في الدوام وعدم الاختصاص بزمان مخصوص.

وقد توهم الرازي أن من النسخ بيان الوقت في الحكم الموقت بدليل منفصل وهو قول بين الفساد، وأما الحكم الذي صرح فيه بالتأييد، فعدم وقوع النسخ فيه ظاهر.

الثاني: أن يكون أهل الكتاب أيضا ممن أمر النبي صلى الله عليه واله وسلم بقتالهم، وذلك باطل، فإن الايات القرآنية الامرة بالقتال إنما وردت في جهاد المشركين ودعوتهم إلى الايمان بالله تعالى وباليوم الاخر.

وأما أهل الكتاب فلا يجوز قتالهم إلا مع وجود سبب آخر من قتالهم للمسلمين، لقوله تعالى: " وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"(3).

أو إلقائهم الفتنة بين المسلمين، لقوله تعالى بعد ذلك: " والفتنة أشد من القتل"(4).

أو امتناعهم عن إعطاء الجزية للاية المتقدمة، وأما مع عدم وجود سبب آخر فلا يجوز قتالهم لمجرد الكفر، كما هو صريح الاية الكريمة.

وحاصل ذلك: أن الامر في الاية المباركة بالعفو والصفح عن الكتابيين، لانهم يودون أن يردوا المسلمين كفارا - وهذا لازم عادي لكفرهم - لا ينافيه الامر بقتالهم عند وجود سبب آخر يقتضيه، على أن متوهم النسخ في الاية الكريمة قد حمل لفظ الامر من قوله تعالى: " حتى يأتي الله بأمره"(5).

على الطلب، فتوهم أن الله أمر بالعفو عن الكفار إلى أن يأمر المسلمين بقتالهم فحمله على النسخ.

وقد اتضح للقارئ أن هذا - على فرض صحته - لا يستلزم النسخ ولكن (البيان - 19) هذا التوهم ساقط، فإن المراد بالامر هنا الامر التكويني وقضاء الله تعالى في خلقه، ويدل على ذلك تعلق الاتيان به، وقوله تعالى بعد ذلك: " إن الله على كل شئ قدير"(6).

وحاصل معنى الاية الامر بالعفو والصفح عن الكتابيين بودهم هذا، حتى يفعل الله ما يشاء في خلقه من عز الاسلام، وتقوية شوكته، ودخول كثير من الكفار في الاسلام، وإهلاك كثير من غيرهم، وعذابهم في الاخرة، وغير ذلك مما يأتي الله به من قضائه وقدره.

المصدر:

البيان في تفسير القرآن، لزعيم الحوزة العلمية: سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.


1- البقرة/109

2- التوبة/29

3- البقرة/190

4- البقرة/191

5- البقرة/109

6- البقرة/109