مناقشة ادعاء نسخ آية: (ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والاقربون...)
﴿وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا﴾(1).
قد اختلفت الاراء في مدلول الاية المباركة: فمنهم من حمل ذيل الاية المباركة ﴿وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾ على بيان حكم مستقل عن سابقه، فجعله جملة مستأنفة، وفسر كلمة ﴿نَصِيبَهُمْ﴾ بالنصر، والنصح، والرفادة، والعون والعقل، والمشورة، وعلى ذلك: فالاية محكمة غير منسوخة، وهذا القول منسوب إلى ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، ومنهم من جعله معطوفا على ما قبله، وفسر كلمة ﴿نَصِيبَهُمْ﴾ بما يستحقه الوارث من التركة.
ثم إن هؤلاء قد اختلفوا: فذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين في الاية المباركة عقد المؤاخاة، وما يشبهه من العقود التي كانت يتوارث بسببها في الجاهلية، وقد أقر الاسلام ذلك إلى أن نزلت آية المواريث: ﴿وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ﴾(2).
وعلى ذلك فالآية منسوخة.
وذهب بعضهم إلى أن المراد بعقد اليمين خصوص عقد ضمان الجريرة وعلى ذلك فإن قلنا بما ذهب إليه أكثر علماء أهل السنة من أنه لا إرث بعقد ضمان الجريرة فكانت الاية منسوخة أيضا بآية المواريث، وإن قلنا بما ذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه من ثبوت الارث بهذا العقد كانت الاية محكمة غير منسوخة.
وقد استدلوا على ذلك بأن آية المواريث لم تنف إرث غير اولي الارحام، وإنما قدمهم على غيرهم، فلا تنافي بين الايتين، لتكون آية المواريث ناسخة لهذه الاية.
والحق: إن المراد بالاية ما هو ظاهرها الذي يفهم منها، وهو ثبوت الارث بالمعاقدة، ومع ذلك فلا نسخ لمدلول الاية.
وبيان ذلك: إن سياق الاية يقتضي أن يكون المراد بالنصيب المذكور فيها هو الارث، وحمله على النصرة وما يشبهها خلاف ظاهرها، بل كاد يكون صريحها.
ثم إن ذكر الطوائف الثلاث في الاية لا يدل على اشتراكهم وتساويهم في الطبقة، فإن الولد يرث أبويه ولا يرث معه أحد من أقرباء الميت من أولي أرحامه فالذي يستفاد من الاية الكريمة أن الموروث هو هذه الطوائف الثلاث، وأما ترتيب الارث وتقدم بعض الوارث على بعض فلا يستفاد من الاية، وقد استفيد ذلك من الادلة الاخرى في الكتاب والسنة.
وعلى هذا الذى ذكرناه تكون الاية الكريمة جامعة لجميع الوراث على الاجمال، فالولد يرث ما تركه الوالدان، والاقربون من اولي الارحام يرث بعضهم بعضا، ومن عقد معه يرث في الجملة تشريكا أو ترتيبا.
وتفصيل ذلك: إن الارث من غير جهة الرحم لا بد له من تحق عقد والتزام من العاقد بيمينه وقدرته، وهو تارة يكون من جهة الزواج، فكل من الزوجين يرث صاحبه بسبب عقد الزواج الذي تحقق بينهما، وتارة يكون من جهة عقد البيعة والتبعية ويسمى ذلك بولاء الامامة، ولا خلاف في ثبوت ذلك لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم وقد ورد في عدة روايات من طرق أهل السنة أنه صلى الله عليه واله وسلم قال: " أنا وارث من لا وارث له ".
ولا إشكال أيضا في ثبوته لاوصياء النبي الكرام (ع) فقد ثبت بالادلة القطعية أنهم بمنزلة نفس الرسول صلى الله عليه واله وسلم، وعلى ذلك اتفقت كلمات الامامية وروايات أهل البيت (ع) وتارة يكون من جهة عقد العتق، فيرث المعتق عبده الذي أعتقه بولاء العتق، ولا خلاف في ذلك بين الامامية، وقال به جمع من غيرهم، وتارة يكون من جهة عقد الضمان ويسمى ذلك " بولاء ضمان الجريرة " وقد اتفقت الامامية على ثبوت الارث بسبب هذا الولاء، وذهب إليه أبو حنيفة وأصحابه.
وجملة القول: فدعوى نسخ الاية يتوقف على ثبوتها على أمرين:
1- أن يكون قوله تعالى: ﴿والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم﴾(3).
في الاية معطوفا على ما قبله، ولا يكون جملة مستأنفة ليكون المراد من " نصيبهم " النصح والمشورة وما يشبههما.
2- أن يراد بعقد اليمين فيها: خصوص ضمان الجريرة، مع الالتزام بعدم ثبوت الارث به، أو عقد المؤاخاة وما يشبهه من العقود التي اتفق المسلمون على عدم ثبوت الارث بها.
أما " الامر الاول ": فلا ريب فيه، وهو الذي يقتضيه سياق الاية.
وأما " الامر الثاني "، فهو ممنوع، لان ضمان الجريرة أحد مصاديق عقد اليمين، ومع ذلك فلم ينسخ حكمه، ودعوى أن المراد بعقد اليمين العقود التي لا توجب التوريث، كالمؤاخاة ونحوها لا دليل على ثبوتها.
المصدر:
البيان في تفسير القرآن، لزعيم الحوزة العلمية: سماحة آية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي.
1- النساء/33
2- الأنفال/75
3- النساء/33