معنى: ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ و﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾ في آية الوضوء


المسألة:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾(1). لماذا يجب الغسل من المرافق والآية تقول: ﴿إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ ولماذا لا يجب مسح تمام الرأس والآية تقول: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾؟


الجواب:

المستند في وجوب البدء في غسل اليدين للوضوء بالمرافق هو السنَّة الشريفة الواصلة إلينا من طريق أهل البيت (ع).

 

فمن ذلك ما ورد في معتبرة زرارة وبكير أنهما سألا أبا جعفر (ع) عن وضوء رسول الله (ص)، فدعا بطشت أو تور فيه ماء، فغمس يده اليمنى، فغرف بها غرفة، فصبَّها على وجهه فغسل بها وجهه، ثم غمس كفَّه اليسرى فغرف بها غرفة فأفرغ على ذراعه اليمنى، فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكف لا يردُّها إلى المرفق، ثم غمس كفه اليمنى فأفرغ بها على ذراعه اليسرى من المرفق وصنع بها مثل ما صنع باليمنى .."(2)

 

فالرواية -وكذلك روايات أخرى- صريحة في أنَّ رسول الله (ص) كان يبدأ في غسل يده للوضوء بالمرفق، وذلك لا ينافي مفاد الآية المباركة، إذ أنها لم تكن بصدد بيان كيفية الغسل وأنه يبدأ من أيِّ طرف وينتهي بأيِّ طرف بل كانت بصدد بيان ما يجب غسله من اليد وأنَّ حدود ما يجب غسله هو ما بين الأصابع والمرفق وأما أنَّ الغسل من أيِّ من أي طرفٍ يبدأ وإلى أي طرف ينتهي فذلك مسكوتٌ عنه في الآية المباركة وإنما عرفناه بواسطة السنَّة الشريفة.

 

فمفاد قوله تعالى: ﴿إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ هو أنه يجب عليكم في الوضوء غسل الوجه وغسل الأيدي وأما من أين نغسل الوجه من الأعلى إلى الأسفل أو العكس أو من الوسط فذلك ما لم تتصد الآية لبيانه، وهكذا بالنسبة لغسل الأيدي فإنَّ الآية لم تُبين مبدأ الغسل ومنتهاه وإنما بيَّنت حدود ما يُغسل، فلأنَّ اليد قد يُراد منها ما بين المنكب إلى الأصابع، وقد يراد منها خصوص الكف كما في قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم﴾ وقد يُراد منها الذراع والكف أو الذراع وحده فالآية هنا بيَّنت أنَّ المراد من اليد التي التي يجب غسلها في الوضوء هي ما بين الأصابع إلى المرفق أي يجب غسل مجموع الذراع والكف. هذا هو ما كانت الآية المباركة بصدد بيانه.

 

فكلمة "إلى" في الآية المباركة وإن كانت بمعنى الغاية ولكنها غايةٌ للمغسول بمعنى أنَّها مبيِّنة للحد والمقدار الذي يجب غسله، وهذا هو معنى أنَّ كلمة "إلى" غاية للمغسول.

 

ولمزيد من التوضيح نُمثِّل بما يُقال: "اغسل هذا الجدار إلى السقف".

 

فإنَّ هذه الجملة لا تعني لزوم أن يبدأ الغسل من أسفل الجدار وينتهي عند حدود السقف بل إنَّ المتفاهم عرفاً من معنى هذه الجملة هو لزوم أن يكون الغسل مستوعباً لتمام الجدار من الأسفل إلى حدود السقف، وأما من أين يبدأ الغسل فذلك ما لم تتصد الجملة المذكورة لبيانه، لذلك يكون المخاطب ممتثلاً لو بدأ من الأعلى وانتهى بالأسفل، ويكون ممتثلاً لو بدأ بالأعلى أو بدأ بالوسط ثم غسل الأعلى ثم غسل الأسفل.

 

وهكذا لو قيل "اغسل البساط إلى طرفه الأعلى" أو قيل: "إسقِ الزرع إلى آخر شجرة" أو "افرش الدار بالرخام إلى الباب" فإنَّ أحداً لا يفهم من الفقرة الاولى لزوم البدء بالطرف الأسفل للبساط والانتهاء بالطرف الأعلى بل إنَّ المتفاهم عرفاً من هذا الخطاب هو لزوم استيعاب الغسل لتمام البساط من غير فرق بين أنْ يبدأ المخاطب بالغسل من الأسفل أو يبدأ من الأعلى وينتهي بالأسفل.

 

وهكذا فإنَّ أحداً لا يفهم من الفقرة الثانية لزوم أن يسقي الزرع مبتدأً بالشجرة التي في أول البستان وينتهي عند آخر شجرة بل المتفاهم من هذا الخطاب هو لزوم أن يسقى تمام الزرع سواءً بدأ بأول شجرة أو انتهى بأول شجرة, وكذلك هو الحال في الخطاب الثالث فإنَّ المخاطب يكون ممتثلاً لو فرش الدار إلى الباب بالرخام سواءً بدأ من عند الباب أو انتهى عنده.

 

فكلمة "إلى" في تمام هذه الأمثلة مبيِّنة لحدود الموضوع وليست بصدد بيان حدور متعلق الأمر أي أنَّها غاية لموضوع الأمر وليست غاية لمتعلَّقه.

 

وهكذا الحال في الآية الشريفة فإنَّ كلمة "إلى" فيها ليست غايةً لمتعَّلق الأمر وهو الغسل وإنما هي غايةٌ لموضوع الامر أعني المغسول "اليد". ولذلك فمفاد الآية المباركة هو أنَّه يجب أن يكون الغسل مستوعباً لما بين الأصابع والمرفق، وما سوى ذلك من تحديد المبدأ والمنتهى فهو مسكوت عنه أي أنَّ الآية لم تتصد لبيانه ولهذا فإنَّ ما نلتزم به من وجوب البدء بالمرفق لم يكن مُستنِداً إلى الآية المباركة وإنما هو مستند إلى السنَّة الشريفة الواصلة من طريق أهل البيت (ع).

 

وأما أنَّ المسح يكون على مقدَّم الرأس فمستفاد من السنَّة الشريفة أيضاً كمعتبرة حريز عن زرارة قال: قال أبو جعفر الباقر (ع): "ألا أحكي لكم وضوء رسول الله (ص)؟ فقلنا: بلى، إلى أن قال: ومسح مقدَّم رأسه، وظهر قدميه .. قال: وقال أبو جعفر (ع): وتمسح ببلَّة يمناك ناصيتَك .. "(3) والناصية هي مقدم الرأس.

 

وكذلك ما ورد في معتبرة عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد الله (ع) قال: "مسح الرأس على مقدمه"(4).

 

ولا ينافي ذلك مفاد الآية المباركة وهي قوله تعالى: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾ فإنَّ الآية ليست ظاهرةً في وجوب مسح الرأس بتمامه بل هي ظاهرة في أن ما يجب مسحه هو بعض الرأس كما هو مقتضى دخول حرف الباء المفيد للتبعض على كلمة ﴿رُؤُوسِكُمْ﴾.

 

ويؤيد ذلك ما ورد في معتبرة زرارة عن أبي جعفر (ع) قال: قلت لأبي جعفر (ع): "ألا تخبرني من أين علمتَ وقلتَ أن المسح ببعض الرأس وبعض الرجلين؟ فضحك فقال: يا زرارة قاله رسول الله (ص)، ونزل به الكتاب من الله عز وجل، لانَّ الله عز وجل قال ﴿فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ﴾ فعرفنا أنَّ الوجه كلَّه ينبغي أن يُغسل ثم قال: ﴿وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ﴾ فوصل اليدين إلى المرفقين بالوجه فعرفنا أنه ينبغي لهما أن يُغسلا إلى المرفقين، ثم فصَّل بين الكلام فقال: ﴿وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ﴾ فعرفنا حين قال: ﴿بِرُؤُوسِكُمْ﴾ أن المسح ببعض الرأس لمكان الباء، ثم وصل الرجلين بالرأس كما وصل اليدين بالوجه فقال: ﴿وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ﴾ فعرفنا حين وصلهما بالرأس أن المسح على بعضهما ثم فسَّر ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله للناس فضيعوه"(5)

 

فالحكم بأنَّ ما يجب مسحه من الرأس هو بعضه عُرف من تفسير رسول الله (ص) للآية كما أفاد الإمام الباقر (ع) "ثم فسَّر ذلك رسولُ الله (ص) للناس فضيَّعوه" هذا مضافاً إلى أنَّه المناسب لمقتضى الظهور لمكان الباء كما أفاد الإمام (ع).

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

1- سورة المائدة / 6.

2- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص 388.

3- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص 388.

4- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص 410.

5- وسائل الشيعة (آل البيت) -الحر العاملي- ج 1 ص 413.