القرآن لأنَّه من عند الله تعالى فهو الأبلغ


المسألة:

ذكر أحد الكتاب إشكالاً حول الإعجاز البلاغي للقرآن الكريم، وقال فيما حاصله:

إنَّ القرآن وإن كنَّا نؤمن أنه من عند الله تعالى وأنَّه معجزة للرسول الكريم (ص) إلا أنه لم يكن معجزةً في البلاغة وإنما هو معجزة في أمور أخرى، إذ نَّه لو كان معجزة في البلاغة لعجز كلُّ البشر عن أن يأتوا بمثله في البلاغة في حين اننا لو قارنَّا بين بلاغة القرآن وبين بلاغة كتاب نهج البلاغة لوجدناه مثله في البلاغة ولذلك قال الأدباء وأهل العلم أنَّ نهج البلاغة "دون كلام الخالق وفوق كلام المخلوق".

 

فالقرآن لو كان معجزة في البلاغة لعجز البشر عن الإتيان بمثله في البلاغة ويكفي لاثبات أنه لم يعجز البشر عن الإتيان بمثله أن نهج البلاغة ألَّفه واحد من البشر وهو الإمام علي (ع) وهو مثل القرآن في البلاغة إلا أن يقال أن نهج البلاغة معجزة أيضاً كالقرآن في البلاغة.

 

فإما أن يقال إن القرآن معجزة في البلاغة ولازم ذلك أن نهج البلاغة معجزة وأنه كلام الله تعالى أو يقال إن نهج البلاغة ليس معجزة ولازمه أن القرآن ليس معجزة أيضا وأنه كلام النبي (ص) لأن كلاً من نهج البلاغة والقرآن قد عجز البشر عن الإتيان بمثلهما.

 

فما هو جوابكم عن هذا الإشكال؟ وما هو الدليل على أن القرآن أبلغ كلام؟


الجواب:

أولاً: إذا كان البناء هو الاستدلال على الدعوى المذكورة بتقييم العلماء وأهل الأدب، فهم قد قيَّموا نهج البلاغة بأنّه "دون كلام الخالق" "وفوق كلام المخلوق" وهذا إلتزامٌ منهم بتميُّز كلام الخالق وتفوُّقه على ما ورد من خطبٍ في نهج البلاغة، وحينئذٍ لا يصح مقايسته بالقرآن لأنه دونه بحسب تشخيص وتقييم أهل التخصُّص الذين من المفترض أن صاحب الإشكال ملتزم بتقييمهم.

 

وثانياً: إنَّ الالتزام بأنَّ نهج البلاغة مما يعجز البلغاء عن أن يأتوا بمثله لا يُساوق مماثلته للقرآن في البلاغة، فإنَّه من الممكن الالتزام بعجز البلغاء عن أن يأتوا بمثل ما جاء في نهج البلاغة وفي ذات الوقت يتمُّ الالتزام بأنه دون ما جاء به القرآن الكريم.

 

وذلك فإنَّ للبلاغة مراتب متعددة، فثمة مرتبة يتمكن الكثير من البلغاء من الرعاية لها في كلامهم، ومرتبة أخرى يتمكن القليل منهم الرعاية لها في كلامهم وكلما تمَّ الترقي في مراتب البلاغة كلَّما تضاءل عددُ القادرين على الرعاية لها حتى نصل إلى مرتبة لا يتمكن منها سوى النبي (ص) أو علي (ع) مثلاً، وتلك هي أقصى المراتب البشرية في البلاغة.

 

ثم إنَّ هنا مرتبة يعجز عن الإتيان بها مطلق البشر بما فيهم النبي (ص) وعلي (ع)، وهذه هي المرتبة التي عليها القرآن الكريم.

 

فالالتزام بعجز البشر عن الإتيان بمثل نهج البلاغة لا يساوق الالتزام بمماثلته للقرآن الكريم. فبلاغة القرآن يعجز البشر بما فيهم النبي (ص) وعلي (ع) عن الإتيان بمثلها وأما نهج البلاغة فيعجز البشر غير النبي (ص) علي (ع) عن الإتيان بمثله.

 

ثالثاً: إنَّه بعد التسليم بأنّ البلغاء عاجزون مجتمعين عن الإتيان بمثل نهج البلاغة فإنَّ مؤدى الالتزام بذلك هو الالتزام بأنَّ نهج البلاغة كان كرامةً لعلي (ع) ممنوحةً له من قِبل الله تعالى شأنه في ذلك شأن الكثير من الكرامات التي وقعت لعلي (ع) وغيره من المعصومين (ع).

 

والكرامات بمقتضى طبعها مما يعجز البشر عن الإتيان بمثلها، فالالتزام بها لا ينفي الإعجاز عما يأتي به الإنبياء، فعيسى (ع) كان يُبرئ الأكمه والأبرص ويُحيي الموتى بإذن الله تعالى، فلو صدر ذلك من غيره من الأولياء في زمنه أو بعد زمنه فإنَّ ذلك لا ينفي أنَّ ما صدر من عيسى (ع) كان معجزة.

 

فإنَّ ما صدر من عيسى (ع) وما صدر من ذلك الولي كان إعجازاً دون ريب غايته أنَّ ما صدر من عيسى (ع) كان مقترناً بدعواه النبوة وما صدر من الولي لم يكن مقترناً بدعوى النبوة ولكنه كان تمكيناً خاصاً من الله تعالى ولم يكن بقدرة بشرية. لذلك لم يكن صدوره عن الولي مقتضياً لنفي أن ما صدر من عيسى (ع) كان معجزة. نعم لو كان صدور ذلك عن الولي بقدرةٍ بشرية لكان ذلك نافياً الإعجازَ عما صدر عن عيسى (ع).

 

وهكذا الحال بالنسبة لنهج البلاغة فلو فرضنا جدلاً أنه مما يعجز البشر عن الإتيان بمثله فإنَّه حينئذٍ يكون كرامةً ممنوحةً من الله تعالى لعلي (ع) ولذلك فإنَّه لا ينفي المعجزة عن بلاغة القرآن. فإنَّ بلاغة النهج بناءً على ذلك لم تكن بقدرةٍ بشرية حتى تكون نافية لإعجاز القرآن البلاغي.

 

فما يصلح لنفي الإعجاز البلاغي عن القرآن الكريم هو أن يأتي البشر بقدراتهم البشرية بمثل القرآن الكريم.

 

ثم إنه بعد أن سلمنا جدلاً أن كلاً من القرآن الكريم ونهج البلاغة مما يعجز البشر عن الإتيان بمثلهما فإنَّ ذلك لا يُنتج القول بأن القرآن من كلام البشر كالنبي (ص) لأنَّ نهج البلاغة الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله كان من كلام علي (ع)، كما لا يُنتج أن نهج البلاغة من كلام الله لأن القرآن الذي يعجز البشر عن الإتيان بمثله من كلام الله تعالى.

 

فإنه يمكن الالتزام بأن كلاً من القرآن الكريم ونهج البلاغة مما يعجز البشر عن الإتيان بمثلهما ورغم ذلك نلتزم بأنَّ القرآن كلام الله تعالى وأن نهج البلاغة كلامٌ لعليٍّ بلاغتُه كانت ممنوحة من الله لعليٍّ بتمكينٍ خاص.

 

على أنَّ الموجب بعد ذلك للإذعان بعدم بشرية القرآن الكريم هو القرآن الكريم نفسه المحكيُّ لنا من قِبل الصادق المصدَّق (ص) والذي من المفترض إقرار المستشكل بصدقه وعصمته.

 

قال تعالى: ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾(1) ﴿وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ﴾(2). ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ﴾(3) وغير ذلك من الآيات الكثيرة مضافاً إلى النصوص المتواترة الصادرة عن الرسول الكريم (ص).

 

والمتحصل إن الالتزام جدلاً بإشتراك القرآن الكريم ونهج البلاغة في أنّ كلاً منهما مما يعجز البشر عن الإتيان بمثلهما لا يُنتج القول ببشرية القرآن الكريم أو عدم بشرية نهج البلاغة.

 

ثم إنَّ الإقرار بأنَّ القرآن الكريم كتاب الله أنزله على نبِّيه ليكون هادياً لعباده يسلتزم الإقرار بأنَّه في أعلا درجات البلاغة على الإطلاق وأن التشكيك في أنَّه الأبلغ يساوق التشكيك في صدوره من عند الله تعالى.

 

ويثبت ذلك من ملاحظة هذا البيان:

إن معنى البلاغة في الكلام هو أداء المعاني والمقاصد في قوالبَ لفظية فصيحة ومتناسبة مع مقتضيات الحال، فالكلام البليغ هو الكلام الفصيح الذي يُراعى فيه كلُّ ما له دخل في الوصول لمنتهى المقصد ويُراعى فيه حال المتلقِّي للكلام.وتوضيح ذلك في محله .

 

وعليه فلو فُرض أنَّ المقاصد الإلهية صيغت في قوالب لفظية غير متناسبة مع مقتضيات الحال فإنَّ ذلك ينشأ إما عن عدم إدراك الله تعالى لما هو المناسب لمقتضى الحال وهو مستحيل لاستلزامه الجهل على الله تعالى، والالتزام به مساوق للكفر، وإما أن يكون المناسب لمقتضى الحال مُدرَكٌ لله تعالى ولكنه يختار غير المتناسب لمقتضى الحال وهذا منافٍ لمقتضى الحكمة، وما ينافي الحكمة لا يصدر من العاقل الملتفت فضلاً عن ذي الحكمة المطلقة.

 

وبذلك يتعيَّن أن يكون الكلام الإلهي بليغاً متناسباً مع مقتضى الحال. إلا أنَّ هذا المقدار لا يُثبت أنَّه الأبلغ والأنسب لمقتضى الحال، فقد يكون الكلام مناسباً لمقتضيات الحال ولكنه لا يكون الأنسب.

 

وهنا لابد من إضافة مقدمةٍ أخرى وهي أنَّ عدم اختيار الأنسب إما أن يكون ناشئاً عن عدم العلم بما هو الأنسب ، وهذا الفرض مستحيل على الله تعالى لا ستلزامه الجهل المحال.

 

وأما الفرض الثاني فهو أنَّه تعالى يعلم بما هو الأنسب ولكنه يختار غير الأنسب، وهذا الفرض مستحيل أيضاً على الله تعالى لأنه من ترجيح المرجوح على الراجح، وترجيح المرجوح منافٍ للحكمة.

 

فيتعيَّن أنَّ ما يختاره الله تعالى من قوالب لفظية لأداء مقاصده هو الأنسب على الإطلاق، وبذلك يثبت أنَّ آيات القرآن هي أبلغ ما تُؤدى به مقاصد الله تعالى على الإطلاق.

 

والحمد لله رب العالمين

 

الشيخ محمد صنقور

 

1- سورة الزمر / 23.

2- سورة يونس / 37.

3- سورة يونس / 15.