سورة البقرة

مدنية كلها الا آية واحدة منها، وهي ﴿واتقوا يوما ترجعون﴾ الآية وهي مأتان وست وثمانون آية بسم الله الرحمن الرحيم تفسيرها.

(1) ألم: في المعاني عن الصادق (عليه السلام) ألم هو حرف من حروف اسم الله الأعظم المقطع في القرآن الذي يؤلفه النبي (صلى الله عليه وآله) وأله الامام فإذا دعا به أجيب.

أقول: فيه دلالة على أن الحروف المقطعات أسرار بين الله تعالى ورسوله ورموز لم يقصد بها إفهام غيره وغير الراسخين في العلم من ذريته والتخاطب بالحروف المفردة سنة الأحباب في سنن (سنة خ ل) المحاب فهو سر الحبيب مع الحبيب بحيث لا يطلع عليه الرقيب شعر: بين المحبين سر ليس يفشيه * قول ولا قلم للخلق يحكيه والدليل عليه أيضا من القرآن قوله عز وجل: وأخر متشابهات، إلى قوله: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم.

ومن الحديث ما رواه العياشي عن أبي لبيد المخزومي قال: قال: أبو جعفر (عليه السلام) يا أبا لبيد إنه يملك من ولد العباس إثنا عشر يقتل بعد الثامن منهم أربعة تصيب أحدهم الذبحة فتذبحه فئة قصيرة أعمارهم خبيثة سيرتهم منهم الفويسق الملقب بالهادي والناطق والغاوي يا أبا لبيد إن لي في حروف القرآن المقطعة لعلما جما إن الله تبارك وتعالى أنزل ﴿ألم﴾ ذلك الكتب فقام محمد حتى ظهر نوره وثبتت كلمته وولد يوم ولد وقد مضى من الألف السابع مأة سنة وثلاث سنين ثم قال: وتبيانه في كتاب الله في الحروف المقطعة إذا عددتها من غير تكرار وليس من حروف مقطعة حرف تنقضي أيامه الا وقائم من بني هاشم عند انقضائه ثم قال: الألف واحد واللام ثلاثون والميم أربعون والصاد تسعون فذلك مائة وواحد وستون ثم كان بدور خروج الحسين بن علي (عليهما السلام) ألم الله فلما بلغت مدته قام قائم من ولد العباس عند المص ويقوم قائمنا عند انقضائها بالمر فافهم ذلك وعه واكتمه.

وفي تفسير الامام أن معنى ألم إن هذا الكتاب الذي أنزلته هو الحروف المقطعة التي منها ألف لام ميم وهو بلغتكم وحروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين.

أقول: هذا أيضا يدل على أنها من جملة الرموز المفتقرة إلى هذا البيان فيرجع إلى الأول وكذا سائر ما ورد في تأويلها وهي كثيرة.

وفي المجمع عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال لكل كتاب صفوة وصفوة هذا الكتاب حروف التهجي.

أقول: ومن الأسرار الغريبة في هذه المقطعات أنها تصير بعد التركيب وحذف المكررات (علي صراط حق نمسكه أو صراط علي حق نمسكه).

(2) ذلك الكتب: في تفسير الإمام (عليه السلام) يعني القرآن الذي افتتح بالم هو ذلك الكتاب الذي أخبرت به موسى (عليه السلام) ومن بعده من الأنبياء وهم أخبروا بني إسرائيل اني سأنزله عليك يا محمد لا ريب فيه: لا شك فيه لظهوره عندهم.

والعياشي عن الصادق (عليه السلام) قال: كتاب علي لا ريب فيه.

أقول: ذلك تفسيره وهذا تأويله وإضافة الكتاب إلى علي بيانية يعني أن ذلك إشارة إلى علي والكتاب عبارة عنه، والمعنى أن ذلك الكتاب الذي هو علي لا مرية فيه وذلك لأن كمالاته مشاهدة من سيرته وفضائله منصوص عليها من الله ورسوله واطلاق الكتاب على الانسان الكامل شائع في عرف أهل الله وخواص أوليائه.

قال أمير المؤمنين (عليه السلام): شعر دواؤك فيك وما تشعر * وداؤك منك وما تبصر وأنت الكتاب المبين الذي * بأحرفه يظهر المضمر وتزعم أنك جرم صغير * وفيك انطوى العالم الأكبر وقال الصادق (عليه السلام) الصورة الانسانية هي أكبر حجة الله على خلقه وهي الكتاب الذي كتبه الله بيده.

هدى: بيان من الضلالة.

للمتقين: الذين يتقون الموبقات ويتقون تسليط السفه على أنفسهم حتى إذا علموا ما يجب عليهم علمه عملوا بما يوجب لهم رضاء ربهم.

وفي المعاني والعياشي عن الصادق (عليه السلام): المتقون شيعتنا.

أقول: وإنما خص المتقين بالاهتداء به لأنهم المنتفعون به وذلك لأن التقوى شرط في تحصيل المعرفة الحقة.

(3) الذين يؤمنون بالغيب: بما غاب عن حواسهم من توحيد الله ونبوة الأنبياء وقيام القائم والرجعة والبعث والحساب والجنة والنار وسائر الأمور التي يلزمهم الايمان بها مما لا يعرف بالمشاهدة وإنما يعرف بدلائل نصبها الله عز وجل عليه.

ويقيمون الصلاة: باتمام ركوعها وسجودها وحفظ مواقيتها وحدودها وصيانتها مما يفسدها أو ينقصها.

ومما رزقناهم: من الأموال والقوى والأبدان والجاه والعلم.

ينفقون: يتصدقون: يحتملون الكل ويؤدون الحقوق لأهاليها (1) ويقرضون ويسعفون الحاجات ويأخذون بأيدي الضعفاء يقودون الضرائر وينجونهم من المهالك ويحملون عنهم المتاع ويحملون الراجلين على دوابهم ويؤثرون على من هو أفضل منهم في الايمان على أنفسهم بالمال والنفس ويساوون من كان في درجتهم فيه بهما ويعلمون العلم لأهله ويروون فضائل أهل البيت (عليهم السلام) لمحبيهم، ولمن يرجون هدايته.

وفي المعاني والمجمع والعياشي عن الصادق (عليه السلام): ومما علمناهم يبثون.

(4) والذين يؤمنون بما أنزل إليك: من القرآن والشريعة.

وما أنزل من قبلك: من التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وسائر كتب الله المنزلة.

وبالآخرة أي الدار التي بعد هذه الدنيا التي فيها جزأ الأعمال الصالحة بأفضل مما عملوه وعقاب الأعمال السيئة بمثل ما كسبوه.

هم يوقنون: لا يشكون.

(5) أولئك على هدى من ربهم: على بيان وصواب وعلم بما أمرهم به.

وأولئك هم المفلحون: الناجون مما منه يوجلون الفائزون بما يؤملون.

(6) إن الذين كفروا: بالله وبما آمن به هؤلاء المؤمنون.

سواء عليهم أنذرتهم: خوفتهم.

أم لم تنذرهم لا يؤمنون: أخبر عن علمه فيهم.

(7) ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم: وسمها بسمة يعرفها من يشاء من ملائكته وأوليائه إذا نظر إليها بأنهم الذين لا يؤمنون، في العيون عن الرضا (عليه السلام) قال الختم: هو الطبع على قلوب الكفار عقوبة على كفرهم كما قال عز وجل ﴿بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا﴾.

وعلى أبصارهم غشوة: غطاء وذلك أنهم لما أعرضوا عن النظر فيما كلفوه وقصروا فيما أريد منهم جهلوا ما لزمهم الايمان به فصاروا كمن على عينيه غطاء لا يبصر ما أمامه فان الله عز وجل يتعالى عن العبث والفساد وعن مطالبة العباد بما قد منعهم بالقهر منه.

ولهم عذاب عظيم: يعني في الآخرة العذاب المعد للكافرين في الدنيا أيضا لمن يريد أن يستصلحه بما ينزل به من عذاب الاستصلاح لينبهه على طاعته أو من عذاب الاصطلام ليصيره إلى عدله وحكمته.

أقول: الاصطلام بالمهملتين الاستيصال والاستصلاح إنما هو يصح لمن لم يستحكم ختمه وغشاؤه وكان ممن يرجى له الخير بعدا وهو تنبيه من الله له واتمام للحجة وإن لم ينتفع هو به.

(8) ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر.

أقول كابن أبي وأصحابه وكالأول والثاني واضرابهما من المنافقين الذين زادوا على الكفر الموجب للختم والغشاوة والنفاق ولا سيما عند نصب أمير المؤمنين (عليه السلام) للخلافة والإمامة.

أقول: ويدخل فيه كل من ينافق في الدين إلى يوم القيامة وإن كان دونهم في النفاق كما قال الباقر (عليه السلام) في حكم بن عتيبة إنه من أهل هذه الآية (2).

وفي تفسير الامام ما ملخصه أنه لما أمر الصحابة يوم الغدير بمبايعة أمير المؤمنين (عليه السلام) بإمرة المؤمنين وقام أبو بكر وعمر إلى تسعة من المهاجرين والأنصار فبايعوه بها ووكد عليهم بالعهود والمواثيق واتى عمر بالبخبخة (3) وتفرقوا، تواطأ قوم من متمرديهم وجبابرتهم بينهم لئن كانت بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) كائنة ليدفعن هذا الأمر عن علي (عليه السلام) ولا يتركونه له وكانوا يأتون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويقولون: لقد أقمت علينا أحب الخلق إلى الله وإليك وكفيتنا به مؤنة الظلمة لنا والجائرين في سياستنا وعلم الله تعالى من قلوبهم خلاف ذلك وإنهم مقيمون على العداوة ودفع الحق عن مستحقه فأخبر الله عنهم بهذه الآية.

وما هم بمؤمنين: بل تواطؤا على إهلاكك واهلاك من أحبك وتحبه إذا قدروا والتمرد عن أحكام الله خصوصا خلافة من استخلفته بأمر الله على أمتك من بعدك لجحودهم خلافته وإمارته عليهم حسدا وعتوا.

قيل: أخرج ذواتهم من عداد المؤمنين مبالغة في نفي الايمان عنهم رأسا.

(9) يخادعون الله والذين آمنوا: يخادعون رسول الله بإبدائهم له خلاف ما في جوانحهم.

أقول: وإنما أضاف مخادعة الرسول إلى الله لأن مخادعته ترجع إلى مخادعة الله كما قال الله عز وجل: ﴿من يطع الرسول فقد أطاع الله﴾ وقال ﴿إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله﴾.

وقال: ﴿وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى﴾.

ولك أن تقول معناه يعاملون الله معاملة المخادع كما يدل عليه ما رواه العياشي عن الصادق (عليه السلام) إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل فيما النجاة غدا؟قال: إنما النجاة ان لا تخادعوا الله فيخدعكم فان من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الايمان ونفسه يخدع لو يشعر.

قيل له: وكيف يخادع الله؟قال: يعمل ما أمره الله عز وجل ثم يريد به غيره فاتقوا الله والرياء فإنه شرك بالله.

وما يخدعون: وما يضرون بتلك الخديعة، وقرئ يخادعون.

إلا أنفسهم: فإن الله غني عنهم وعن نصرتهم ولولا امهاله لهم لما قدروا على شئ من فجورهم وطغيانهم.

وما يشعرون: أن الأمر كذلك وأن الله يطلع نبيه على نفاقهم وكذبهم وكفرهم ويأمره بلعنهم في لعنة الظالمين.

(10) في قلوبهم مرض: قيل نفاق وشك وذلك لأن قلوبهم تغلي على النبي والوصي والمؤمنين حقدا وحسدا وغيظا وحنقا وفي تنكير المرض وإيراد الجملة ظرفية إشارة إلى استقراره ورسوخه وإلا لقال قلوبهم مرضى.

فزادهم الله مرضا: بحيث تاهت له قلوبهم.

ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون.

أقول: أي عذاب مؤلم يبلغ إيجاعه غاية البلوغ بسبب كذبهم أو تكذيبهم على اختلاف القراءة فان وصف العذاب بالأليم إنما يكون للمبالغة وهو العذاب المعد للمنافقين وهو أشد من عذاب الكافرين لأن المنافقين في الدرك الأسفل من النار.

(11) وإذا قيل لا تفسدوا في الأرض: باظهار النفاق لعباد الله المستضعفين فتشوشوا عليهم دينهم وتحيروهم في مذاهبهم.

قالوا إنما نحن مصلحون: لأنا لا نعتقد دينا فنرضى محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) في الظاهر ونعتق أنفسنا من رقه في الباطن وفي هذا صلاح حالنا.

(12) ألا إنهم هم المفسدون: بما يفعلون في أمور أنفسهم لأن الله يعرف نبيه نفاقهم فهو يلعنهم ويأمر المسلمين بلعنهم ولا يثق بهم أيضا أعداء المؤمنين لأنهم يظنون أنهم ينافقونهم أيضا كما ينافقون المؤمنين فلا يرتفع لهم عندهم منزلة ولهذا رد عليهم أبلغ رد (4).

ولكن لا يشعرون.

(13) وإذا قيل لهم: قال لهم خيار المؤمنين: آمنوا: قيل هو من تمام النصح والإرشاد فان كمال الايمان إنما هو بالإعراض عما لا ينبغي المقصود من قوله: لا تفسدوا والاتيان بما ينبغي المطلوب بقوله آمنوا كما آمن الناس: المؤمنون كسلمان والمقداد وأبي ذر وعمار، وقيل أي الكاملون في الانسانية العاملون بمقتضى العقل أي آمنوا إيمانا مقرونا بالإخلاص مبرأ عن شوائب النفاق، قالوا: في الجواب لمن يفيضون إليه لا لهؤلاء المؤمنين فإنهم لا يجسرون على مكاشفتهم بهذا الجواب، أنؤمن كما آمن السفهاء المذلون أنفسهم لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا اضمحل أمره أهلكهم أعداؤه.

ألا إنهم هم السفهاء الأخفاء العقول والآراء الذين لم ينظروا حق النظر فيعرفوا نبوته وثبوت أمره وصحة ما ناطه بوصيه من أمر الدين والدنيا فبقوا خائفين من محمد (صلى الله عليه وآله) وأصحابه ومن مخاليفهم ولا يأمنون أيهم يغلب فيهلكون معه فان كلا من الفريقين يقدر ان نفاقهم معه كنفاقهم مع الآخر ولكن لا يعلمون ان الأمر كذلك وأن الله يطلع نبيه على أسرارهم فيخسئهم ويسقطهم.

(14) وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا: بيان لمعاملتهم مع المؤمنين والكفار بعد بيان مذهبهم وتمهيد نفاقهم فإنهم كانوا يظهرون الايمان لسلمان وأبي ذر ومقداد وعمار وإذا خلوا إلى شياطينهم أخدانهم من المنافقين المشاركين لهم في تكذيب الرسول قالوا إنا معكم أي في الدين والاعتقاد كما كنا إنما نحن مستهزؤن بالمؤمنين.

(15) الله يستهزئ بهم يجازيهم جزاء من يستهزئ به اما في الدنيا فباجراء أحكام المسلمين عليهم وأمره الرسول بالتعريض لهم حنى لا يخفى من المراد بذلك التعريض واما في الآخرة فبما روي أنه يفتح لهم وهم في النار بابا إلى الجنة فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سد عليهم الباب وذلك قوله تعالى: فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون، رواه العامة.

وفي تفسير الإمام (عليه السلام) ما يقرب من معناه في حديث طويل، ويمدهم يمهلهم ويتأتى بهم برفقه ويدعوهم إلى التوبة ويعدهم إذا أنابوا المغفرة في طغيانهم قيل في التعدي عن حدهم الذي كان ينبغي أن يكونوا عليه يعمهون لا يرعوون عن قبيح ولا يتركون أذى محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، قيل تعمي قلوبهم والعمه عمى القلب وهو التحير في الأمر.

(16) أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى: باعوا دين الله واعتاضوا منه الكفر بالله فما ربحت تجارتهم ما ربحوا في تجارتهم في الآخرة لأنهم اشتروا النار وأصناف عذابها بالجنة التي كانت معدة لهم لو آمنوا وما كانوا مهتدين إلى الحق والصواب.

أقول: ولا لطرق التجارة لأن المقصود منها سلامة رأس المال والربح وهؤلاء أضاعوا رأس مالهم الذي هو الفطرة السليمة بما اعتقدوه من الضلالات ولم يربحوا.

(17) مثلهم حالهم العجيبة قيل إنما يضرب الله الأمثال للناس في كتبه لزيادة التوضيح والتقرير فإنها أوقع في القلب وأقمع للخصم الألد لأنها تري المتخيل محققا والمعقول محسوسا كمثل الذي استوقد نارا (5) طلب سطوع النار ليبصر بها ما حوله فلما أضائت ما حوله قيل أي النار ما حول المستوقد أو استضاءت الأشياء التي حوله ان جعلت أضاءت لازمة ذهب الله بنورهم بارسال ريح أو مطر أطفأها وذلك أنهم أبصروا بظاهر الإيمان الحق والهدى وأعطوا أحكام المسلمين من حقن الدم وسلامة المال فلما أضاء إيمانهم الظاهر ما حولهم أماتهم الله وصاروا في ظلمات عذاب الله في الآخرة لا يرون منها خروجا ولا يجدون عنها محيصا وتركهم في ظلمات لا يبصرون في العيون عن الرضا (عليه السلام) إن الله لا يوصف بالترك كما يوصف خلقه ولكنه متى علم أنهم لا يرجعون عن الكفر والضلال منعم المعاونة واللطف وخلى بينهم وبين اختيارهم.

(18) صم بكم عمى: يعني في الآخرة كما قال عز وجل: ﴿ونحشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما﴾.

أقول: وفي الدنيا أيضا عما يتعلق بالآخرة من العلوم والمعارف ولذلك يحشرون يومئذ كذلك قال الله تعالى: ﴿لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها﴾ يعني أمور الآخرة في الدنيا.

وقال أيضا ﴿فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور﴾ وقال أيضا ﴿وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون﴾.

فهم لا يرجعون عن الضلالة إلى الهدى.

(19) أو كصيب (6): قيل يعني أو مثل ما خوطبوا به من الحق والهدى كمثل مطر إذ به حياة القلوب كما بالمطر حياة الأرض من السماء من العلو.

فيه ظلمات مثل للشبهات والمصيبات المتعلقة به ورعد وبرق مثل للتخويف والوعيد والآيات الباهرة المتضمنة للتبصير والتسديد يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت لئلا يخلع (7) الرعد أفئدتهم أو ينزل البرق بالصاعقة عليهم فيموتوا فان هؤلاء المنافقين فيما هم فيه من الكفر والنفاق كانوا يخافون أن يعثر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على كفرهم ونفاقهم فيقتلهم أو يستأصلهم فإذا سمعوا منه لعنا أو وعيدا لمن نكث البيعة جعلوا أصابعهم في آذانهم لئلا يسمعوا فيتغير ألوانهم فيعرف المؤمنون أنهم المعنيون بذلك والله محيط بالكافرين مقتدر عليهم لو شاء أظهر لك نفاق منافقيهم وأبدى لك أسرارهم وأمرك بقتلهم.

(20) يكاد البرق يخطف أبصرهم يذهب: بها وذلك لأن هذا مثل قوم ابتلوا ببرق فنظروا إلى نفس البرق ولم يغضوا عنه أبصارهم ولم يستروا منه وجوههم لتسلم عيونهم من تلألؤه ولم ينظروا إلى الطريق الذي يريدون أن يتخلصوا فيه بضوء البرق فهؤلاء المنافقون يكاد ما في القرآن من الآيات المحكمة ويجحدون الحق فيها يبطل عليهم سائر ما عملوه من الأشياء التي يعرفونها فان من جحد حقا أداه ذلك إلى أن يجحد كل حق فصار جاحده في بطلان سائر الحقوق عليه كالناظر إلى جرم الشمس في ذهاب نور بصره كلما أضاء لهم ظهر لهم ما اعتقدوه انه الحجة مشوا فيه وهؤلاء المنافقون إذا رأوا ما يحبون في دنياهم فرحوا ببيعتهم ويتمنوا باظهار طاعتهم وإذا أظلم عليهم قاموا وقفوا وتحيروا وهؤلاء المنافقين إذا رأوا في دنياهم ما يكرهون وقفوا وتشاءموا ببيعتهم التي بايعوها قيل: مثل اهتزازهم لما يلمع لهم من رشد يدركونه أو رفد يتطلع إليه أبصارهم بمشيهم في مطرح ضوء البرق كلما أضاء لهم وتحيرهم وتوقفهم في الأمر حين تعرض لهم شبهة أو تعن لهم مصيبة بتوقفهم إذا أظلم عليهم وإنما قال: مع الا ظلام إذا لأنهم حراص على المشي كلما صادفوا منه فرصة انتهزوها ولا كذلك التوقف ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم حتى لا يتهيأ لهم الاحتراز من أن تقف على كفرهم أنت وأصحابك فتوجب قتلهم إن الله على كل شئ قدير لا يعجزه شئ.

(21) يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون: قيل لما عدد فرق المكلفين وذكر خواصهم ومصارف أمورهم أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات هزا للسامع وتنشيطا له واهتماما بأمر العبادة وتفخيما لشأنها وجبرا لكلفة العبادة واهتماما بلذة المخاطبة.

وفي تفسير الإمام (عليه السلام) لها وجهان أحدهما خلقكم وخلق الذين من قبلكم لتتقوا كما قال: ﴿وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون﴾ والوجه الآخر ﴿اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم﴾ أي اعبدوه لعلكم تتقون النار ولعل (8) من الله واجب لأنه أكرم من أن يعني عبده بلا منفعة ويطمعه في فضله ثم يخيبه.

أقول: لعلكم على الوجه الأول يتعلق بخلقكم ويراد بالتقوى العبادة وعلى الوجه الثاني يتعلق باعبدوا ويراد بالتقوى الحذر، نبه (عليه السلام) بقوله: لها وجهان على أن القرآن ذو وجوه وان حمله على الجمع صحيح ويأتي نظائره في كلامهم (عليهم السلام) وكون الكلام ذا وجوه مما يزيد في بلاغته ولطافته.

(22) الذي جعل لكم الأرض فراشا جعلها ملائمة لطبائعكم موافقة لأجسادكم مطاوعة لحرثكم ودفن موتاكم لم يجعلها شديدة الحمى والحرارة فتحرقكم ولا شديدة البرودة فتجمد كم ولا شديدة طيب الريح فتصدع هاماتكم ولا شديدة النتن فتعطبكم ولا شديدة اللين كالماء فتغرقكم ولا شديدة الصلابة فتمتنع عليكم في حرثكم وأبنيتكم ودفن موتاكم ولكنه جعل فيها من المتانة ما تنتفعون به وتتماسكون وتتماسك عليها أبدانكم وبنيانكم وجعل فيها من اللين ما تنقاد به لدوركم وقبوركم وكثير من منافعكم والسماء بناء سقفا من فوقكم محفوظا يدير فيها شمسها وقمرها ونجومها لمنافعكم وأنزل من السماء ماء: يعني المطر ينزله من على ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم (9) وأوهادكم ثم فرقه رذاذا ووابلا وهطلا وطلا لتنشفه أرضوكم ولم يجعل نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزروعكم وثماركم، وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (ينزل مع كل قطرة ملك يضعها في موضعها الذي أمره به ربه عز وجل) فأخرج به من الثمرات رزقا لكم.

أقول: لمطعمكم ومشربكم وملبسكم وسائر منافعكم فلا تجعلوا لله أندادا أشباها وأمثالا من الأصنام التي لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تقدر على شئ وأنتم تعلمون (10) أنها لا تقدر على شئ من هذه النعم الجليلة التي أنعمها عليكم ربكم.

(23) وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا: حتى تجحدوا أن يكون محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأن يكون هذا المنزل عليه كلامي مع إظهاري عليه بمكة من الآيات الباهرات كالغمامة المظللة عليه والجمادات المسلمة عليه وغير ذلك فأتوا بسورة من مثله من مثل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) رجل منكم لا يقرأ ولا يكتب ولا يدرس كتابا ولا اختلف إلى عالم ولا تعلم من أحد وأنتم تعرفونه في أسفاره وحضره بقي كذلك أربعين سنة ثم أوتي جوامع العلم حتى علم علم الأولين والآخرين أو من مثل (11) هذا القرآن من الكتب السالفة في البلاغة والنظم.

في الكافي عن الكاظم (عليه السلام) ما معناه أنه لما كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام أتاهم الله من مواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم كما أتى قوم موسى (عليه السلام) ما أبطل به سحرهم إذ كان الغالب عليهم السحر وقوم عيسى (عليه السلام) الطب وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص إذ كان الغالب عليهم الزمانات وادعوا شهداءكم من دون الله أصنامكم التي تعبدونها أيها المشركون وشياطينكم أيها اليهود والنصارى وقرناءكم (12) الملحدين يا منافقي المسلمين من النصاب لآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) الطيبين الذين يشهدون بزعمكم أنكم محقون وتزعمون أنهم شهداؤكم عند رب العالمين بعبادتكم ويشفعون لكم إليه ليشهدوا لكم أن ما أتيتم مثله قيل أو لينصرونكم على معارضته كما في قوله تعالى: ﴿قل لئن اجتمعت الجن والإنس على أن يأتوا بمثل هذا القران لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا﴾ فان الشهيد جاء بمعنى الامام والناصر والقائم بالشهادة والتركيب للحضور حسا أو خيالا إن كنتم صادقين بأن محمدا (صلى الله عليه وآله) تقوله من تلقاء نفسه لم ينزله الله عليه.

(24) فإن لم تفعلوا هذا الذي تحديتكم به أيها المقرعون بحجة رب العالمين ولن تفعلوا ولا يكون هذا منكم ابدا ولن تقدروا عليه فاتقوا النار التي وقودها حطبها الناس والحجارة حجارة الكبريت لأنها أشد الأشياء حرا.

وفي الاحتجاج عن أمير المؤمنين (عليه السلام): لقد مررنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله) بجبل وإذا الدموع تسيل من بعضه فقال: ما يبكيك يا جبل؟قال: يا رسول الله كان المسيح مر بي وهو يخوف الناس بنار وقودها الناس والحجارة فانا أن أكون من تلك الحجارة.

قال (ص): (لا تخف تلك حجارة الكبريت) فقر الجبل وسكن وهدء.

وقيل المراد بها الأصنام التي نحتوها وقرنوا بها أنفسهم وعبدوها طمعا في شفاعتها، كما في قوله تعالى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾.

القمي عن الصادق (ع) قال إن ناركم هذه جزء من سبعين جزء من نار جهنم وقد أطفئت سبعين مرة بالماء ثم التهبت ولولا ذلك ما استطاع آدمي أن يطفأها وإنها ليؤتى بها يوم القيامة حتى توضع على النار فتصرخ صرخة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل الا جثا على ركبتيه فزعا من صرختها أعدت للكافرين المكذبين بكلامه ونبيه.

(25) وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جنات تجري من تحتها: من تحت أشجارها ومساكنها الا نهر روي أنها نزلت في علي وحمزة وجعفر وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب.

أقول: وهذا لا ينافي عموم حكمها كما دريت كلما رزقوا منها من تلك الجنات من ثمرة من ثمارها رزقا قالوا هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا فأسماؤه كأسمائه ولكنها في غاية الطيب غير مستحيل إلى ما يستحيل إليه ثمار الدنيا من العذرة والصفراء والسوداء والدم إلا العرق الذي يجري في أعراضهم أطيب ريحا من المسك.

أقول: العرض بالكسر الجسد.

وأتوا به متشابها يشبه بعضه بعضا بأنها كلها خيار لا رذل فيها وبأن كل صنف منها في غاية الطيب واللذة ليست كثمار الدنيا التي بعضها ني وبعضها متجاوز لحد النضج والادراك إلى حد الفساد من حموضة ومرارة وسائر صنوف المكاره ومتشابهات أيضا متفقات الألوان مختلفات الطعوم.

أقول: لما كان المعرفة في الدنيا بذر المشاهدة في الآخرة جاز أن يكون أشير الذي رزقنا من قبل لأهل المعرفة إلى ثمرة علومهم ومعارفهم التي صارت عينا وعيانا.

ولهم فيها أزواج مطهرة من الحيض والنفاس وسائر أنواع الأقذار لفواحش لا ولاجات ولا خراجات ولا دخالات ولا ختالات ولا متغايرات ولا لأزواجهن فركات ولا صخابات (13) ولا عيابات ولا نخاسات ومن كل العيوب والمكاره بريئات.

أقول: الولاجات والخراجات اللواتي يكثرن الظرف والاختيار والدخالات الغاشات والختالات الخداعات والمتغايرات من الغيرة وفركات مبغضات والصخابات الصياحات والعيابات من العيب والنخاسات الدفاعات.

وفي الفقيه عن الصادق (عليه السلام) لا يحضن ولا يحدثن.

وهم فيها خلدون: لأن نياتهم في الدنيا لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلدوا كذا في العلل عن الصادق (عليه السلام).

(26) إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا: للحق يوضحه به لعباده المؤمنين، ما ما هو المثل.

أقول: يعني أي مثل كان فان ما لزيادة الإيهام والشيوع في النكرة بعوضة فما فوقها وهو الذباب رد بذلك على من طعن في ضربه الأمثال بالذباب والعنكبوت وبمستوقد النار والصيب في كتابه.

وفي المجمع عن الصادق (عليه السلام) إنما ضرب الله المثل بالبعوضة لأنها على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق الله في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله أن ينبه بذلك المؤمنين على لطيف خلقه وعجيب صنعه.

فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم إنه المثل المضروب الحق من ربهم أراد به الحق وإبانته والكشف عنه وإيضاحه.

أقول: يعني يعلمون أن المعتبر في المثل أن يكون على وفق الممثل له في الصغر والعظم والخسة والشرف ليبينه ويوضحه حتى يصير في صورة المشاهد المحسوس دون الممثل.

وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا أي شئ أراد به من جهة المثل يضل به كثيرا ويهدى به كثيرا قيل هو جواب ماذا أي إضلال كثير بسبب إنكاره وهداية كثير من جهة قبوله فهو يجري مجرى البيان للجملتين المتقدمتين يعني أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة ولسببيته لهما نسبا إليه.

وفي تفسير الإمام (عليه السلام) يعني: يقول الذين كفروا لا معنى للمثل لأنه وإن نفع به من يهديه فهو يضر به من يضل به فرد الله عليهم قولهم فقال: وما يضل به إلا الفاسقين الخارجين عن دين الله الجانين على أنفسهم بترك تأمله وبوضعه على خلاف ما أمر الله بوضعه عليه.

(27) الذين ينقضون عهد الله: المأخوذ عليهم لله بالربوبية ولمحمد (صلى الله عليه وآله) بالنبوة ولعلي (عليه السلام) بالإمامة ولشيعتهما بالكرامة من بعد ميثاقه إحكامه وتغليظه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الأرحام والقرابات أن يتعاهدوهم ويقضوا حقوقهم وأفضل رحم وأوجبهم حقا رحم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فان حقهم بمحمد (صلى الله عليه وآله) كما أن حق قرابات الانسان بأبيه وأمه ومحمد أعظم حقا من أبويه وكذلك حق رحمه أعظم وقطيعته أقطع وأفضح.

أقول: ويدخل في الآية التفريق بين الأنبياء والكتب في التصديق وترك موالاة المؤمنين وترك الجمعة والجماعات المفروضة وسائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شر فإنه يقطع الوصلة بين الله وبين العبد التي هي المقصودة بالذات من كل وصل وفصل.

ويفسدون في الأرض بسبب قطع ما في وصله نظام العالم وصلاحه أولئك هم الخاسرون الذين خسروا أنفسهم بما صاروا إلى النيران وحرموا الجنان فيالها من خسارة ألزمتهم عذاب الأبد وحرمتهم نعيم الأبد.

(28) كيف تكفرون بالله الخطاب لكفار قريش واليهود وكنتم أمواتا في أصلاب آبائكم وأرحام أمهاتكم فأحياكم أجرى فيكم الروح وأخرجكم أحياء ثم يميتكم في هذه الدنيا ويقبر كم ثم يحييكم في القبور وينعم فيها المؤمنين ويعذب الكافرين ثم إليه ترجعون في الآخرة بأن تموتوا في القبور بعد الاحياء ثم تحيوا للبعث يوم القيامة ترجعون إلى ما وعدكم من الثواب على الطاعات إن كنتم فاعليها ومن العقاب على المعاصي إن كنتم مقارفيها.

(29) هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعا: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) خلق لكم لتعتبروا به وتتوصلوا به إلى رضوانه وتتوقوا من عذاب نيرانه ثم استوى (14) إلى السماء أخذ في خلقها واتقانها فسواهن وقيل عدلهن مصونة عن العوج والقصور والضمير مبهم يفسره ما بعده سبع سماوات وهو بكل شئ عليم ولهذا خلق ما خلق كما خلق لصالحكم على حسب ما اقتضته الحكمة.

(30) وإذ قال ربك للملا كانوا في الأرض مع إبليس وقد طردوا عنها الجن بني الجان وخففت العبادة (15).

والقمي عن الصادق (عليه السلام) إن إبليس كان بين الملائكة يعبد الله في السماء وكانت الملائكة تظنه منهم ولم يكن منهم وذلك أن الله خلق خلقا قبل آدم وكان إبليس حاكما فيهم فأفسدوا في الأرض وعتوا وسفكوا بغير حق فبعث الله عليهم الملائكة فقتلوهم وأسروا إبليس ورفعوه معهم إلى السماء فكان مع الملائكة يعبد الله إلى أن خلق الله آدم فلما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم وظهر ما كان من حسد إبليس له واستكباره علمت الملائكة أنه لم يكن منهم، وقال إنما دخل في الأمر لكونه منهم بالولاء ولم يكن من جنسهم.

والعياشي عنه (عليه السلام) أنه سئل عن إبليس أكان من الملائكة أو هل يلي شيئا من أمر السماء؟قال: لم يكن من الملائكة ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء وكان من الجن وكان مع الملائكة وكانت الملائكة ترى أنه منها وكان الله يعلم أنه ليس منها فلما أمر بالسجود كان منه الذي كان.

وفي الكافي: عنه (عليه السلام) مثله إلى قوله ولم يكن يلي شيئا من أمر السماء وزاد بعده ولا كرامة إني جاعل في الأرض خليفة بدلا منكم ورافعكم منها فاشتد ذلك عليهم لأن العبادة عند رجوعهم إلى السماء تكون أثقل عليهم.

وفي رواية خليفة تكون حجة لي في أرضي على خلقي كما يأتي قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء كما فعلته الجن بني الجان الذين قد طردناهم عن هذه الأرض ونحن نسبح بحمدك ننزهك عما لا يليق بك من الصفات ونقدس لك نطهر أرضك ممن يعصيك.

قال إني أعلم ما لا تعلمون من الصلاح الكامن فيه ومن الكفر الباطن في من هو فيكم وهو إبليس لعنه الله.

القمي عن الباقر عن آبائه عن أمير المؤمنين (عليهم السلام)، ورواه في العلل أيضا عنه (عليه السلام) على اختلاف في ألفاظه قال: إن الله لما أراد أن يخلق خلقا بيده وذلك بعدما مضى عن الجن والنسناس في الأرض سبعة آلاف سنة فرفع سبحانه حجاب السماوات وأمر الملائكة أن انظروا إلى أهل الأرض من الجن والنسناس فلما رأوا ما يعملون فيها من المعاصي وسفك الدماء والفساد في الأرض بغير الحق عظم ذلك عليهم وغضبوا الله تعالى وتأسفوا على الأرض ولم يملكوا غضبهم وقالوا ربنا أنت العزيز القادر العظيم الشأن وهذا خلقك الذليل الحقير المتقلب في نعمتك المتمتع بعافيتك المرتهن في قبضتك وهم يعصونك بمثل هذه الذنوب ويفسدون في الأرض ولا تغضب ولا تنتقم لنفسك وأنت تسمع وترى وقد عظم ذلك علينا وأكبرناه لك، فقال جل جلاله: إني جاعل في الأرض خليفة تكون حجة لي في أرضي على خلقي.

قالت الملائكة أتجعل فيها من يفسد فيها كما أفسد هؤلاء ويسفك الدماء كما فعل هؤلاء ويتحاسدون ويتباغضون فاجعل ذلك الخليفة منا فانا لا نتحاسد ولا نتباغض ولا نسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك، قال تبارك وتعالى: إني أعلم ما لا تعلمون إني أريد أن أخلق خلقا بيدي واجعل من ذريته الأنبياء والمرسلين وعباد الله الصالحين وأئمة مهديين واجعلهم خلفائي على خلقي في أرضي يهدونهم إلى طاعتي وينهونهم عن معصيتي وأجعلهم حجة لي عليهم عذرا ونذرا وأبين النسناس عن أرضي وأطهرها منهم وأنقل الجن المردة العصاة عن بريتي وخيرتي من خلقي وأسكنهم في الهواء وفي اقفار الأرض فلا يجاورون خلقي وأجعل بين الجن وبين نسل خلقي حجابا ومن عصاني من نسل خلقي الذين اصطفيتهم أسكنتهم مسكن العصاة وأوردتهم مواردهم فقالت الملائكة: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا قال: فباعدهم الله عز وجل من العرش مسيرة خمسماءة عام فلاذوا بالعرش وأشاروا بالأصابع فنظر الرب جل جلاله إليهم ونزلت الرحمة فوضع لهم البيت المعمور فقال: طوفوا به ودعوا العرش فإنه لي رضا.

فطافوا به وهو البيت الذي يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدا ووضع الله تعالى البيت المعمور توبة لأهل السماء والكعبة توبة لأهل الأرض فقال الله تبارك وتعالى: إني خلق (16) بشرا من صلصال من حماء مسنون قال وكان ذلك من الله تعالى تقدمة في آدم قبل أن يخلقه واحتجاجا منه عليهم قال فاغترف جل جلاله من الماء العذب الفرات غرفة بيمينه وكلتا يديه يمين فصلصلها فجمدت، وقال الله جل جلاله: (منك أخلق النبيين والمرسلين وعبادي الصالحين والأئمة المهديين الدعاة إلى الجنة واتباعهم إلى يوم القيامة ولا أسئل عما أفعل وهم يسألون).

ثم اغترف من الماء المالح الأجاج غرفة فصلصلها فجمدت فقال تعالى: ومنك أخلق الفراعنة والجبابرة واخوان الشياطين والعتاة والدعاة إلى النار وأشياعهم إلى يوم القيامة (ولا اسئل عما أفعل وهم يسألون) قال وشرط في ذلك البداء فيهم ولم يشترط في أصحاب اليمين ثم خلط الماءين جميعا في كفه فصلصلهما، ثم كفاهما قدام عرشه وهما سلالة من طين ثم أمر ملائكة الجهات الشمال والجنوب والصبا والدبور أن يجولوا على هذه السلالة من الطين فأبرؤوها وأنشأوها ثم جزؤ وها وفصلوها وأجروا فيها الطبائع الأربع المرتين (17) والدم والبلغم، فجالت الملائكة عليها وأجروا فيها الطبائع الأربع فالدم من ناحية الصبا والبلغم من ناحية الشمال والمرة الصفراء من ناحية الجنوب والمرة السوداء من ناحية الدبور فاستقلت النسمة وكمل البدن فلزمه من جهة الريح حب النساء وطول الأمل والحرص ومن جهة البلغم حب الطعام والشراب والبر والحلم والرفق ومن جهة المرة الغضب والسفه والشيطنة والتجبر والتمرد والعجلة ومن جهة الدم حب الفساد واللذات وركوب المحارم والشهوات.

قال أبو جعفر (عليه السلام): وجدنا هذا في كتاب أمير المؤمنين (عليه السلام) وزاد القمي في روايته فخلق الله آدم (عليه السلام) وبقي أربعين سنة مصورا وكان يمر به إبليس اللعين فيقول: لأمر ما خلقت قال العالم (عليه السلام: فقال إبليس لئن أمرني الله بالسجود لهذا عصيته قال ثم نفخ فيه الروح وبلغت دماغه عطس عطسة وجلس منها مستويا فقال الحمد لله فقال الله عز وجل يرحمك الله ربك يا آدم فقال الإمام (عليه السلام) فسبقت له من الله الرحمة.

أقول: أكثر ما تضمنه هذا الحديث قد روي في أخبار كثيرة عنهم (عليهم السلام).

وفي رواية العياشي أن الملائكة منوا على الله بعبادتهم إياه فأعرض عنهم وأنهم قالوا في سجودهم في أنفسهم ما كنا نظن أن يخلق الله خلقا أكرم عليه منا نحن خزان الله وجيرانه وأقرب الخلق إليه فلما رفعوا رؤوسهم قال الله واعلم ما تبدون من ردكم علي وما كنتم تكتمون من ظنكم أني لا أخلق خلقا أكرم علي منكم فلما عرفت الملائكة أنها وقعت في خطيئة لا ذوا بالعرش وانها كانت عصابة من الملائكة ولم يكن جميعهم.

الحديث.

وعن الباقر (عليه السلام) كان ذلك تعصيا منهم فاحتجب عنهم سبع سنين فلا ذوا بالعرش يقولون لبيك ذا المعارج لبيك حتى تاب عليهم فلما أصاب آدم الذنب طاف بالبيت حتى قبل الله منه.

وفي الكافي والعياشي عنه (عليه السلام) فغضب الله عليهم ثم سألوه التوبة فأمرهم أن يطوفوا بالضراح (18) وهو البيت المعمور فمكثوا يطوفون به سبع سنين يستغفرون الله مما قالوا ثم تاب الله عليهم من بعد ذلك ورضي عنهم فكان هذا أصل الطواف ثم جعل الله البيت الحرام حذاء الضراح توبة لمن أذنب من بني آدم وطهورا لهم.

وفي العلل عن الصادق (عليه السلام) فحجبهم عن نوره سبعة (19) آلاف عام فلا ذوا بالعرش سبعة آلاف سنة فرحمهم وتاب عليهم وجعل لهم البيت المعمور الذي في السماء الرابعة فجعله مثابة لهم وأمنا ووضع البيت الحرام تحت البيت المعمور فجعله مثابة للناس وأمنا فصار الطواف سبعة أشواط أوجب على العباد لكل ألف سنة شوطا.

أقول: لا منافاة بين السبع سنين وسبعة آلاف عام لأن مدة السنين والأيام تختلف باختلاف النشئات والعوالم، قال الله تعالى: (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) وقال (وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون) فيجوز أن يكون تارة عده بسني نشأة وأخرى بسني أخرى.

(31) وعلم آدم الا سماء كلها ثم (20) القمي قال (ع) أسماء الجبال والبحار والأودية والنبات والحيوان.

وفي المجمع والعياشي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل ماذا علمه قال الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال وهذا البساط مما علمه.

وفي تفسير الامام عن السجاد (عليه السلام) علمه أسماء كل شئ، وفيه أيضا أسماء أنبياء الله وأوليائه وعتاة أعدائه.

أقول: تحقيق المقام والتوفيق بين روايتي الامام يقتضي بسطا من الكلام وذكر نبذ من الأسرار فنقول وبالله التوفيق ليس المراد بتعليم الأسماء تعليم الألفاظ الدلالة على معانيها فحسب كيف وهو يرجع إلى تعليم اللغة وليس هو علما يصلح لأن يتفاخر به على الملائكة ويتفضل به عليهم بل المراد بالأسماء حقائق المخلوقات الكائنة في عالم الجبروت المسماة عند طائفة بالكلمات وعند قوم بالأسماء وعند آخرين بالعقول.

وبالجملة: أسباب وجود الخلائق وأرباب أنواعها التي بها خلقت وبها قامت وبها رزقت فإنها أسماء الله تعالى لأنها تدل على الله بظهورها في المظاهر دلالة الاسم على المسمى فان الدلالة كما تكون بالألفاظ كذلك تكون بالذوات من غير فرق بينهما فيما يؤول إلى المعنى وأسماء الله لا تشبه أسماء خلقه وإنما أضيفت في الحديث تارة إلى المخلوقات كلها لأن كلها مظاهرها التي فيها ظهرت صفاتها متفرقة وأخرى إلى الأولياء والأعداء لأنهما مظاهرها التي فيها ظهرت صفاتها مجتمعة أي ظهرت صفات اللطف كلها في الأولياء وصفات القهر كلها في الأعداء وإلى هذا أشير في الحديث القدسي الذي يأتي ذكره في تفسير آية سجود الملائكة لآدم (عليه السلام) من قوله سبحانه: يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبرياتي هذا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأنا الحميد المحمود في فعالي شققت له اسما من اسمي وهذا علي وأنا العلي العظيم شققت له اسما من اسمي، إلى آخر ما ذكر من هذا القبيل فان معنى الاشتقاق في مثل هذا يرجع إلى ظهور الصفات وانباء المظهر عن الظاهر فيه أو هما سببان للاشتقاق أو مسببان عنه وإنما يقول بالسببية من لم يفهم العينية، والمراد بتعليم آدم الأسماء كلها خلقه من أجزاء مختلفة وقوى متباينة حتى استعد لا دراك أنواع المدركات من المعقولات والمحسوسات والمتخيلات والموهومات والهامة معرفة ذوات الأشياء وخواصها وأصول العلم وقوانين الصناعات وكيفية آلاتها والتمييز بين أولياء الله وأعدائه فتأتي له بمعرفة ذلك كله مظهريته لأسماء الله الحسنى كلها وبلوغه مرتبة أحدية الجمع التي فاق بها سائر أنواع الموجودات ورجوعه إلى مقامه الأصلي الذي جاء منه وصار منتخبا لكتاب الله الكبير الذي هو العالم الأكبر كما قال أمير المؤمنين (عليه السلام): وفيك انطوى العالم الأكبر.

ان قلت: ما نفقه كثيرا مما تقول فهب أن المراد بالأسماء الحقائق فأي مناسبة بين تعليم آدم أسماء المخلوقات وبين خلقه مختلف القوى والأجزاء والهامة معرفة ذوات الأشياء والتمييز بين الأولياء والأعداء فهل لك من تبيان أو تستطيع الإتيان فيه بسلطان على أن ينحل به هذا اللغز والمعمى أو ينجلي به عن البصائر العمة والعمى.

قلت: لعلك نسيت ما حققناه في المقدمة الرابعة في معنى المتشابه وتأويله أو لم تستطع إجراءه فيما نحن بسبيله فلنورد ذلك لك بتقرير آخر يكون أظهر لك فيما نحن فيه مما قررناه هناك.

فنقول: وبالله التوفيق ان الاسم ما يدل على المسمى ويكون علامة لفهمه فمنه ما يعتبر فيه صفة تكون في المسمى وبذلك الاعتبار يطلق عليه ومنه ما لا يعتبر فيه ذلك فالأول يدل على الذات الموصوفة بصفة معينة كلفظ الرحمن فإنه يدل على ذات متصفة بالرحمة ولفظ القهار فإنه يدل على ذات لها القهر إلى غير ذلك، وقد يطلق الاسم بهذا المعنى على مظاهر صفة الذات باعتبار اتصافه بالصفة كالنبي الذي هو مظهر هداية الله سبحانه فإنه اسم الله الهادي لعباده والأسماء الملفوظة بهذا الاعتبار هي أسماء الأسماء.

وسئل مولانا الرضا (عليه السلام) عن الاسم ما هو؟قال: صفة لموصوف وهذا اللفظ يحتمل المعنيين اللفظ والمظهر وإن كان في المظهر اظهر وقد يطلق الاسم على ما يفهم من اللفظ أي المعنى الذهني، وعليه ورد قول الصادق (عليه السلام): من عبد الله بالتوهم فقد كفر، ومن عبد الاسم والمعنى فقد أشرك ومن عبد المعنى بإيقاع الأسماء عليه بصفاته التي وصف بها نفسه فعقد عليه قلبه ونطق به لسانه في سرائره وعلانيته فأولئك هم المؤمنون حقا فان المراد بالاسم هاهنا ما يفهم من اللفظ لا اللفظ فان اللفظ لا يعبد وبالمعنى ما يصدق عليه اللفظ فالاسم معنى ذهني والمعنى موجود عيني وهو المسمى والاسم غير المسمى لأن الانسان مثلا في الذهن ليس بانسان ولا له جسمية ولا حياة ولا حس ولا حركة ولا نطق ولا شئ من خواص الإنسانية فتدبر فيه تفهم معنى الحديث ومن الله الإعانة.

إذا تمهد هذا فاعلم أن لكل اسم من الأسماء الله الإلهية مظهرا من الموجودات باعتبار غلبة ظهور الصفة التي اشتمل عليها ذلك الاسم فيه وهو اسم باعتبار دلالته على الله من جهة اتصافه بتلك الصفة وذلك لأن الله سبحانه إنما يخلق ويدبر كل نوع من أنواع الخلائق باسم من أسمائه وذلك الاسم هو رب ذلك النوع والله سبحانه رب الأرباب.

وإلى هذا أشير في كلام أهل البيت (عليهم السلام) في أدعيتهم (عليهم السلام) بقولهم وبالاسم الذي خلقت به العرش وبالاسم الذي خلقت به الكرسي وبالاسم الذي خلقت به الأرواح إلى غير ذلك من هذا النمط، وعن مولانا الصادق (عليه السلام) نحن والله الأسماء الحسنى التي لا يقبل الله من العباد عملا إلا بمعرفتنا وذلك لأنهم (عليه السلام) وسائل معرفة ذاته ووسائط ظهور صفاته وأرباب أنواع مخلوقاته ولا يحصل لأحد العلم بالأسماء كلها إلا إذا كان مظهرا لها كلها ولا يكون مظهرا لها كلها إلا إذا كان في جبلته استعداد قبول ذلك كله وهو ما ذكرناه فافهم ترشد إن شاء الله.

ثم عرضهم على الملائكة: أقول: أي عرض أشباح المخلوقات فردا فردا في عالم الملكوت المسمى عند قوم بعالم الروحانيات المدلول عليها بذكر الأسماء إذ هي مظاهر الأسماء كلها أو بعضها ولهذا أورد بضمير ذوي العقول لأنهم كلهم ذوو عقل، وفي الرواية الأخيرة أي عرض أشباحهم وهم أنوار في الأظلة وهو صريح فيما قلناه.

فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء أقول: يعني بأسماء الله التي بها خلقت هذه الأشباح فإنها بتمامها كانت مستورة على الملائكة الأرضية الا نوعا واحدا لكل صنف منهم كما أنها مستورة على سائر المخلوقات سوى الأنبياء والأولياء.

إن كنتم صادقين: بأنكم أحقاء بالخلافة من آدم وأن جميعكم تسبحون وتقدسون وأن ترككم هاهنا أصلح من إيراد من بعدكم أي فكما لم تعرفوا غيب من في خلالكم ممن ترون أشخاصها فبالحري أن لا تعرفوا الغيب الذي لم يكن.

(32) قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم بكل شئ الحكيم المصيب بكل فعل.

أقول: وإنما اعترفوا بالعجز والقصور لما قد بان لهم من فضل آدم ولا حت لهم الحكمة في خلقه فصغر حالهم عند أنفسهم وقل علمهم لديهم وانكسرت سفينة جبروتهم فغرقوا في بحر العجز وفوضوا العلم والحكمة إلى الله وإنما لم يعرفوا حقائق الأشياء كلها لاختلافها وتباينها وكونهم وحدانية الصفة إذ ليس في جبلتهم خلط وتركيب ولهذا لا يفعل كل صنف منهم إلا فعلا واحدا فالراكع منهم راكع ابدا والساجد منهم ساجد أبدا والقائم منهم قائم أبدا كما حكى الله عنهم بقوله: ﴿وما منا الا له قام معلوم﴾ ولهذا ليس لهم تنافس وتباغض بل مثالهم مثال الحواس فان البصر لا يزاحم السمع في إدراك الأصوات ولا الشم يزاحمهما ولا هما يزاحمان الشم فلا جرم مجبولون على الطاعة ولا مجال للمعصية في حقهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون فكل صنف منهم مظهر لاسم واحد من الأسماء الإلهية لا يتعداه ففاقهم آدم بمعرفته الكاملة ومظهريته الشاملة.

(33) قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم.

أقول: يعني أخبرهم بالحقائق المكنونة عنهم والمعارف المستورة عليهم ليعرفوا جامعيتك لها وقدرة الله تعالى على الجمع بين الصفات المتباينة، والأسماء المتناقضة ومظاهرها بما فيها من التضاد في مخلوق واحد كما قيل: ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد.

فلما أنبأهم بأسمائهم فعرفوها أخذ عليهم العهود والمواثيق للأنبياء والأولياء بالإيمان بهم والتفضيل لهم على أنفسهم فعند ذلك قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض سرهما وأعلم ما تبدون من ردكم علي وما كنتم تكتمون من اعتقادكم أنه لا يأتي أحد يكون أفضل منكم وعزم إبليس على الاباء على آدم أن أمر بطاعته فجعل آدم حجة عليهم.

(34) وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم وذلك لما كان في صلبه من أنوار نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) وأهل بيته المعصومين (عليهم السلام) وكانوا قد فضلوا على الملائكة باحتمالهم الأذى في جنب الله فكان السجود لهم تعظيما وإكراما ولله سبحانه عبودية ولآدم (عليه السلام) طاعة.

قال علي بن الحسين حدثني أبي عن أبيه (عليهم السلام) عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا عباد الله إن آدم (عليه السلام) لما رآى النور ساطعا من صلبه إذ كان الله قد نقل أشباحنا من ذروة العرش إلى ظهره رأى النور ولم يتبين الأشباح فقال: يا رب ما هذه الأنوار فقال عز وجل: (أنوار وأشباح نقلتهم من أشرف بقاع عرشي إلى ظهرك ولذلك أمرت الملائكة بالسجود لك إذ كنت وعاء لتلك الأشباح فقال آدم يا رب لو بينتها لي فقال الله عز وجل: انظر يا آدم إلى ذروة العرش فانطبع فيه صور أنوار أشباحنا التي في ظهره كما ينطبع وجه الانسان في المرآة الصافية فرأى أشباحنا فقال ما هذه الأشباح يا رب فقال الله: يا آدم هذه أشباح أفضل خلائقي وبرياتي هذا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وانا الحميد المحمود في فعالي شققت له اسما من اسمي وهذا علي وأنا العلي العظيم شققت له اسما من اسمي وهذه فاطمة وأنا فاطر السماوات والأرض فاطم أعدائي من رحمتي يوم فصل قضائي وفاطم أوليائي عما يعرهم ويشينهم فشققت لها اسما من اسمي وهذا الحسن وهذا الحسين وأنا المحسن المجمل شققت أسميهما من اسمي هؤلاء خيار خليقتي وكرام بريتي بهم آخذ وبهم أعطي وبهم أعاقب وبهم أثيب فتوسل بهم إلي يا آدم وإذا دهتك داهية فاجعله إلي شفعاءك فاني آليت على نفسي قسما حقا أن لا أخيب بهم آملا ولا أرد بهم سائلا فلذلك حين زلت منه الخطيئة دعا الله عز وجل بهم فتيب عليه وغفرت له فسجدوا إلا إبليس في المعاني عن الرضا (عليه السلام) كان اسمه الحارث سمي إبليس لأنه ابلس من رحمة الله أبى واستكبر أخرج ما كان في قلبه من الحسد وكان من الكافرين.

في العيون عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه أول من كفر وأنشأ الكفر.

والعياشي عن الصادق (عليه السلام) مثله والقمي عنه (عليه السلام) الاستكبار هو أول معصية عصي الله بها.

قال (عليه السلام): فقال إبليس رب اعفني من السجود لآدم وأنا أعبدك عبادة لم يعبدكها ملك مقرب ولا نبي مرسل فقال جل جلاله لا حاجة لي في عبادتك إنما عبادتي من حيث أريد لا من حيث تريد.

(35) وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة في الكافي والعلل والقمي عن الصادق (عليه السلام) أنها كانت من جنان الدنيا يطلع فيها الشمس والقمر ولو كانت من جنان الخلد ما خرج منها أبدا، وزاد القمي ولم يدخلها إبليس وكلا منها رغدا واسعا حيث شئتما بلا تعب ولا تقربا هذه الشجرة العياشي عن الباقر (عليه السلام) يعني لا تأكلا منها قيل وإنما علق النهي بالقرب الذي هو من مقدمات التناول مبالغة في تحريمه، ووجوب الاجتناب عنه وتنبيها على أن القرب من الشئ يورث داعية وميلانا يأخذ بمجامع القلب ويلهيه عما هو مقتضى العقل والشرع.

وفي تفسير الامام أنها شجرة علم محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) آثرهم الله تعالى بها دون سائر خلقه لا يتناول منها بأمر الله الا هم ومنها ما كان يتناوله النبي (صلى الله عليه وآله) وعلي وفاطمة والحسن والحسين (عليهم السلام) بعد إطعامهم المسكين واليتيم والأسير حتى لم يحسوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب وهي شجرة تميزت من بين سائر الأشجار بأن كلا منها إنما يحمل نوعا من الثمار وكانت هذه الشجرة وجنسها تحمل البر والعنب والتين والعناب وسائر أنواع الثمار والفواكه والأطعمة فلذلك اختلف الحاكون بذكرها، فقال بعضهم: برة، وقال آخرون: هي عنبة، وقال آخرون: وهي الشجرة التي من تناول منها بإذن الله ألهم علم الأولين والآخرين من غير تعلم ومن تناول بغير اذن الله خاب من مراده وعصى ربه.

أقول: وفي رواية أنها شجرة الحسد، وفي رواية أخرى أنها شجرة الكافور.

وفي العيون باسناده إلى عبد السلام بن صالح الهروي قال: قلت للرضا (عليه السلام) يا ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت فقد اختلف الناس فيها فمنهم من يروي أنها الحنطة ومنهم من يروي أنها العنب ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد فقال كل ذلك حق قلت فما معنى هذه الوجوه على اختلافها فقال يا أبا الصلت ان شجرة الجنة تحمل أنواعا وكانت شجرة الحنطة وفيها عنب ليست كشجرة الدنيا وإن آدم لما أكرمه الله تعالى ذكره باسجاده ملائكة له وبادخاله الجنة قال في نفسه هل خلق الله بشرا أفضل مني فعلم الله عز وجل ما وقع في نفسه فناداه ارفع رأسك يا آدم وانظر إلى ساق عرشي فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا: لا إله إلا الله محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلي بن أبي طالب أمير المؤمنين وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة فقال آدم يا رب من هؤلاء فقال عز وجل: هؤلاء من ذريتك وهم خير منك ومن جميع خلقي ولولاهم ما خلقتك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء والأرض فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهى عنها وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم فأخرجهما الله تعالى عن جنته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض.

أقول: كما أن لبدن الانسان غذاء من الحبوب والفواكه كذلك لروحه غذاء من العلوم والمعارف وكما أن لغذاء بدنه أشجارا تثمرها فكذلك لروحه أشجار تثمرها ولكل صنف منه ما يليق به من الغذاء فان من الانسان من يغلب فيه حكم البدن على حكم الروح ومنه من هو بالعكس ولهم في ذلك درجات يتفاضل بها بعضهم على بعض ولأهل الدرجة العليا كل ما لأهل الدرجة السفلى وزيادة ولكل فاكهة في العالم الجسماني مثال في العالم الروحاني مناسب لها كما مرت الإشارة إليه في المقدمة الرابعة.

ولهذا فسرت الشجرة تارة بشجرة الفواكه وأخرى بشجرة العلوم وكان شجرة علم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إشارة إلى المحبوبية الكاملة المثمرة لجميع الكمالات الإنسانية المقتضية للتوحيد المحمدي الذي هو الفناء في الله والبقاء بالله المشار إليه بقوله (عليه السلام) لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل فان فيها من ثمار المعارف كلها وشجرة الكافور إشارة إلى برد اليقين الموجب للطمأنينة الكاملة المستلزمة للخلق العظيم الذي كان لنبينا (ص) ودونه لأهل بيته (عليهم السلام) فلا منافاة بين الروايات ولا بينها وبين ما قاله أهل التأويل انها شجرة الهوى والطبيعة لأن قربها إنما يكون بالهوى والشهوة والطبيعة وهذا معنى ما ورد أنها شجرة الحسد فان الحسد إنما ينشأ منها فتكونا من الظالمين بمعصيتكما والتماسكما درجة قد أوثر بها غيركما إذا رمتما بغير حكم الله.

(36) فأزلهما وقرئ فأزالهما الشيطان عنها بوسوسته وخديعته وإيهامه وعداوته وغروره بأن بدأ بآدم ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة الا ان تكونا ملكين ان تناولتما منها تعلمان الغيب وتقدران على ما يقدر عليه من خصه الله تعالى بالقدرة أو تكونا من الخلدين لا تموتان ابدا وقاسمهما حلف لهما أني لكما لمن الناصحين وكان إبليس بين لحيي الحية أدخلته الجنة وكان آدم يظن أن الحية هي التي تخاطبه ولم يعلم أن إبليس قد اختبي بين لحييها فرد آدم على الحية أيتها الحية هذا من غرور إبليس كيف يخوننا ربنا أم كيف تعظمين الله بالقسم به وأنت تنسبينه إلى الخيانة وسوء النظر وهو أكرم الأكرمين أم كيف أروم التوصل إلى ما منعني منه ربي وأتعاطاه بغير حكمة فلما أيس إبليس من قبول آدم (ع) منه عاد ثانية بين لحيي الحية فخاطب حواء من حيث يوهمها أن الحية هي التي تخاطبها وقال يا حواء أرأيت هذه الشجرة التي كان الله عز وجل حرمها عليكما فقد أحلها لكما بعد تحريمها لما عرف من حسن طاعتكما له وتوقيركما إياه وذلك أن الملائكة الموكلين بالشجرة التي معها الحراب يدفعون عنها سائر حيوانات الجنة لا تدفعك عنها إن رمتها فاعلمي بذلك إنه قد أحل لك وابشري بأنك إن تناولتها قبل آدم (ع) كنت أنت المتسلطة عليه الآمرة الناهية فوقه فقالت حواء: سوف أجرب هذا فرامت الشجرة فأرادت الملائكة أن يدفعوها عنها بحرابها فأوحى الله إليها إنما تدفعون بحرابكم من لا عقل له يزجره فأما من جعلته متمكنا مميزا مختارا فكلوه إلى عقله الذي جعلته حجة عليه فان أطاع استحق ثوابي وإن عصى وخالف أمري استحق عقابي وجزائي فتركوها ولم يتعرضوا لها بعدما هموا بمنعها بحرابهم فظنت أن الله نهاهم عن منعها لأنه قد أحلها بعدما حرمها فقالت صدقت الحية وظنت أن المخاطب لها هي الحية فتناولت منها ولم تنكر من نفسها شيئا فقالت لآدم (عليه السلام) ألم تعلم أن الشجرة المحرمة علينا قد أبيحت لنا تناولت منها ولم يمنعني املاكها ولم أنكر شيئا من حالي فلذلك اغتر آدم (عليه السلام) وغلط فتناول فأخرجهما مما كانا فيه من النعم وقلنا يا آدم ويا حواء ويا أيتها الحية ويا إبليس اهبطوا بعضكم لبعض عدو فآدم وحواء وولدهما عدو للحية وإبليس، وإبليس والحية وأولادهما أعداؤهم وكان هبوط آدم وحواء والحية من الجنة فان الحية كانت من أحسن دوابها وهبوط إبليس من حواليها فإنه كان يحرم عليه دخول الجنة.

أقول: لعله إنما يحرم عليه دخول الجنة بارزا بحيث يعرف وذلك لأنه قد دخلها مختفيا في فم الحية ليدليهما بغرور كما ورد في حديث آخر وبهذا يرتفع التنافي بين هذا الحديث وبين الحديث الذي مر انها لو كانت من جنان الخلد لم يدخلها إبليس أراد به دخولها وهو في فم الحية فليتدبر.

ولكم في الأرض مستقر منزل ومقر للمعاش ومتاع منفعة إلى حين حين الموت يخرج الله منها زروعكم وثماركم وبها ينزهكم وينعمكم وفيها بالبلايا يمتحنكم يلذذكم بنعيم الدنيا تارة لتذكروا به نعيم الآخرة الخالص مما ينغص نعيم الدنيا ويبطله ويزهد فيه ويصغره ويمتحنكم تارة ببلايا الدنيا التي تكون في خلالها الزحمات وفي تضاعيفها النقمات ليحذركم بذلك عذاب الأبد الذي لا يشوبه عافية، وفي رواية القمي: إلى حين يعني إلى يوم القيامة.

أقول: لا منافاة بين الروايتين لأن الموت هو القيامة الصغرى للأكثرين والكبرى للآخرين، ولذا ورد من مات فقد قامت قيامته.

(37) فتلقى آدم من ربه كلمات يقولها فقالها وقرئ بنصب آدم ورفع كلمات فتاب عليه بها إنه هو التواب الكثير القبول للتوبة الرحيم بالتائبين.

أقول: التوبة بمعنى الرجوع والإنابة فإذا نسبت إلى الله تعالى تعدت بعلى وإذا نسبت إلى العبد تعدت بإلى ولعل الأول لتضمين معنى الاشفاق والعطف ومعنى التوبة من العبد رجوعه إلى الله بالطاعة والانقياد بعدما عصى وعتا ومعناها من الله رجوعه بالعطف على عبده بإلهامه التوبة أولا ثم قبوله إياها منه آخرا فلله توبتان وللعبد واحدة بينهما قال الله: ﴿ثم تاب عليهم ليتوبوا﴾ أي ألهمهم التوبة ليرجعوا ثم إذا رجعوا قبل توبتهم لأن هو التواب الرحيم ولهذه الآية معنى آخر يأتي في سورة التوبة إن شاء الله.

وفي الكافي عن أحدهما (عليهما السلام) أن الكلمات ﴿لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي وأنت خير الغافرين لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فاغفر لي وارحمني إنك أنت أرحم الراحمين لا إله إلا أنت سبحانك اللهم وبحمدك عملت سوء وظلمت نفسي فتب على إنك التواب الرحيم﴾ وفي رواية: (بحق محمد وعلى وفاطمة والحسن والحسين)، وفي أخرى: بحق محمد وآل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم.

وفي تفسير الإمام (ع) لما زلت من آدم الخطيئة واعتذر إلى ربه عز وجل قال: يا رب تب علي واقبل معذرتي واعدني إلى مرتبتي وارفع لديك درجتي فلقد تبين نقص الخطيئة وذلها بأعضائي وسائر بدني قال الله تعالى: يا آدم أما تذكر أمري إياك بأن تدعوني بمحمد وآله الطيبين عند شدائدك ودواهيك وفي النوازل التي تنهضك.

قال آدم: يا رب بلى، قال الله عز وجل: فبهم بمحمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين خصوصا صلوات فادعني أجبك إلى ملتمسك وأزدك فوق مرادك.

فقال آدم: يا رب إلهي وقد بلغ عندك من محلهم لأنك بالتوسل بهم تقبل توبتي وتغفر خطيئتي وانا الذي أسجدت له ملائكتك وأبحته جنتك وزوجته حواء أمتك وأخدمته كرام ملائكتك.

قال الله تعالى: يا آدم إنما أمرت الملائكة بتعظيمك بالسجود لك إذ كنت وعاء هذه الأنوار ولو كنت سألتني بهم قبل خطيئتك أن أعصمك منها وأن أفطنك لدواعي عدوك إبليس حتى تحترز منها لكنت قد جعلت ذلك ولكن المعلوم في سابق علمي يجري موافقا لعلمي فالآن فبهم فادعني لأجيبك فعند ذلك قال آدم: اللهم بجاه محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين والطيبين من آلهم لما تفضلت بقبول توبتي وغفران زلتي وإعادتي من كراماتك إلى مرتبتي فقال الله عز وجل: قد قبلت توبتك وأقبلت برضواني عليك وصرفت آلائي ونعمائي إليك وأعدتك إلى مرتبتك من كراماتي ووفرت نصيبك من رحماتي فذلك قوله عز وجل ﴿فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه انه هو التواب الرحيم﴾.

(38) قلنا اهبطوا منها جميعا أمروا أولا بالهبوط وثانيا بأن لا يتقدم أحدهم الآخرين فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون: قيل ما مزيدة لتأكيد الشرط ولذلك حسن النون وإن لم يكن فيه معنى الطلب والشرط الثاني مع جوابه جواب للشرط الأول.

(39) والذين كفروا وكذبوا بآيتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون: ذكر العياشي حديثا طويلا في محاجة آدم ربه في خطيئته قال في آخره: بلى يا رب الحجة لك علينا ظلمنا أنفسنا وعصينا وإن لم تغفر لنا وترحمنا نكن من الخاسرين، والقمي عن الصادق (عليه السلام): أن آدم هبط على الصفا وحواء على المروة فمكث آدم أربعين صباحا ساجدا يبكي على خطيئته وفراقه للجنة قال: فنزل جبرائيل على آدم وقال: يا آدم ألم يخلقك الله بيديه ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته قال: بلى قال: وأمرك أن لا تأكل من تلك الشجرة فلم عصيته فقال: يا جبرئيل إن إبليس حلف لي بالله أنه لي ناصح وما ظننت أن أحدا خلقه الله يحلف بالله عز وجل كاذبا.

فقال له جبرائيل (عليه السلام): يا آدم تب إلى الله.

وعنه (عليه السلام) قال: سأل موسى ربه أن يجمع بينه وبين آدم فجمع فقال له موسى: يا أبت ألم يخلقك الله بيده ونفخ فيك من روحه وأسجد لك ملائكته وأمرك أن لا تأكل من تلك الشجرة فلم عصيته.

قال يا موسى بكم وجدت خطيئتي قبل خلقي في التوراة قال: بثلاثين ألف سنة قال: فهو ذلك.

قال الصادق (عليه السلام): فحج آدم موسى.

وفي العيون عن الرضا (عليه السلام) أن الله تعالى قال لهما لا تقربا هذه الشجرة وأشار لهما إلى شجرة الحنطة ولم يقل لهما ولا تأكلا من هذه الشجرة ولا مما كان من جنسها فلم يقربا تلك الشجرة وإنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان إليهما.

ثم قال: وكان ذلك من آدم قبل النبوة ولم يكن ذلك منه بذنب كبر استحق به دخول النار وإنما كان من الصغائر الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي إليهم فلما اجتباه الله تعالى وجعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة ولا كبيرة.

قال الله تعالى: ﴿وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى وقال: أن الله اصطفى آدم ونوحا﴾، الآية.

وفي رواية ان الله عز وجل خلق آدم حجة في أرضه وخليفة في بلاده لم يخلقه للجنة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض ليتم مقادير أمر الله عز وجل فلما اهبط إلى الأرض وجعل حجة وخليفة عصم بقوله عز وجل: إن الله اصطفى آدم ونوحا الآية.

والقمي عن الباقر (عليه السلام) كان عمر آدم منذ خلقه الله إلى أن قبضه تسعمائة وثلاثين سنة ودفن بمكة ونفخ فيه يوم الجمعة بعد الزوال ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه وأسكنه جنته من يومه ذلك فما استقر فيها الاست ساعات من يومه ذلك حتى عصى الله فأخرجهما من الجنة بعد غروب الشمس وما باتا فيها.

والعياشي عن الصادق (عليه السلام) ان الله تعالى نفخ في آدم روحه بعد زوال الشمس من يوم الجمعة ثم برأ زوجته من أسفل أضلاعه الحديث كما مر، وزاد في آخره وصيرا بفناء الجنة حتى أصبحا وبدت لهما سوأتهما فناداهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة فاستحى آدم من ربه فخضع وقال: ربنا ظلمنا أنفسنا واعترفنا بذنوبنا فاغفر لنا.

قال الله لهما: اهبطا من سماواتي إلى الأرض فإنه لا يجاورني في جنتي عاص ولا في سماواتي.

ثم قال (عليه السلام): إن آدم لما أكل من الشجرة ذكر ما نهاه الله عنها فندم فذهب ليتنحى من الشجرة فأخذت الشجرة برأسه فجرته إليها وقالت له: أفلا كان فرارك من قبل أن تأكل مني.

(40) يا بني إسرائيل ولد يعقوب.

في العلل عن الصادق (عليه السلام) في حديث يعقوب هو إسرائيل ومعنى إسرائيل (21) عبد الله لأن اسرا هو الله اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم أن بعثت محمدا وأقررته في مدينتكم ولم اجشمكم الحط والترحال إليه وأوضحت علاماته ودلائل صدقه كيلا يشتبه عليكم حاله وأوفوا بعهدي الذي أخذه على أسلافكم أنبياؤهم وأمروهم أن يؤدوه إلى أخلافهم ليؤمنن بمحمد العربي القرشي الهاشمي المبان بالآيات والمؤيد بالمعجزات الذي من آياته علي بن أبي طالب (عليه السلام) شقيقه ورفيقه عقله من عقله وعلمه من علمه وحلمه من حلمه مؤيد دينه بسيفه أوف بعهدكم الذي أوجبت به لكم نعيم الأبد في دار الكرامة وإياي فارهبون في مخالفة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فإني القادر على صرف بلاء من يعاديكم على موافقتي فهم لا يقدرون على صرف انتقامي عنكم إذا آثرتم مخالفتي، والعياشي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن هذه الآية فقال أوفوا بولاية علي فرضا من الله أوف لكم بالجنة.

أقول: ويجري في كل عهد لله على كل أحد.

القمي: قال رجل للصادق (عليه السلام) يقول الله عز وجل: ﴿ادعوني استجب لكم﴾ وانا ندعو فلا يستجاب لنا فقال إنكم لا تفون لله بعهده فإنه تعالى يقول أوفوا بعهدي أوف بعهدكم والله لو وفيتم الله سبحانه لوفى لكم.

(41) وآمنوا بما أنزلت على محمد من ذكر نبوته وإمامة أخيه وعترته مصدقا لما معكم فان مثل هذا الذكر في كتابكم ولا تكونوا أول (22) كافر به قيل تعريض بأن الواجب أن تكونوا أول من آمن به لأنهم كانوا أهل النظر في معجزاته والعلم بشأنه والمستفتحين به والمبشرين بزمانه.

وفي تفسير الإمام (عليه السلام) هؤلاء يهود المدينة جحدوا بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وخانوه وقالوا نحن نعلم أن محمدا نبي وأن عليا وصيه ولكن لست أنت ذلك ولا هذا ولكن يأتيان بعد وقتنا هذا بخمسماءة سنة.

ولا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا في المجمع عن الباقر (عليه السلام) في هذه الآية أن حي بن اخطب وكعب بن أشرف وآخرين من اليهود كان لهم مأكلة على اليهود في كل سنة فكرهوا بطلانها بأمر النبي فحرفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته وذكره فذلك الثمن الذي أريد به في الآية وإياي فاتقون في كتمان أمر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأمر وصيه.

(42) ولا تلبسوا الحق بالباطل: لا تخلطوه به بأن تقروا به من وجه وتجحدوه من وجه وتكتموا عطف على النهي أو نصب باضمار أن الحق من نبوة هذا وإمامة هذا وأنتم تعلمون أنكم تكتمونه تكابرون علومكم وعقولكم.

(43) وأقيموا الصلاة: المكتوبة التي جاء بها محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) وأقيموا أيضا الصلاة على محمد وآله الطاهرين وآتوا الزكاة من أموالكم إذا وجبت ومن أبدانكم إذا الزمت ومن معونتكم إذا التمست.

وفي الكافي عن الكاظم (عليه السلام) أنه سئل عن صدقة الفطرة أهي مما قال الله تعالى وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فقال نعم، والعياشي عنه (عليه السلام) مثله.

وعن الصادق (عليه السلام) هي الفطرة التي افترض الله على المؤمنين.

وفي رواية: نزلت الزكاة وليست للناس الأموال وإنما كانت الفطرة واركعوا مع الراكعين تواضعوا مع المتواضعين لعظمة الله في الانقياد لأولياء الله، وقيل أي في جماعاتهم للصلاة.

أقول: وهذا فرد من افراد ذاك.

(44) أتأمرون الناس بالبر بالصدقات وأداء الأمانات وتنسون أنفسكم تتركونها وأنتم تتلون الكتاب التوراة الآمرة لكم بالخيرات الناهية عن المنكرات أفلا تعقلون ما عليكم من العقاب في أمركم بما به لا تأخذون وفي نهيكم عما أنتم فيه منهمكون نزلت في علماء اليهود ورؤسائهم المردة المنافقين المحتجنين (23) أموال الفقراء المستأكلين للأغنياء الذين كانوا يأمرون بالخير ويتركونه وينهون عن الشر ويرتكبونه.

القمي: نزلت في الخطباء (24) والقصاص وهو قول أمير المؤمنين (عليه السلام) وعلى كل منبر منهم خطيب مصقع يكذب على الله وعلى رسوله وعلى كتابه.

أقول: وهي جارية في كل من وصف عدلا وخالف إلى غيره.

وفي مصباح الشريعة عن الصادق (عليه السلام) قال: من لم ينسلخ من هواجسه ولم يتخلص من آفات نفسه وشهواتها ولم يهزم الشيطان ولم يدخل في كنف الله وأمان عصمته لا يصلح للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأنه إذا لم يكن بهذه الصفة فكل ما أظهر يكون حجة عليه ولا ينتفع الناس به، قال الله تعالى: أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ويقال له يا خائن أتطالب خلقي بما خنت به نفسك وأرخيت عنه عنانك.

(45) واستعينوا بالصبر عن الحرام على تأدية الأمانات وعن الرئاسات الباطلة على الاعتراف بالحق واستحقاق الغفران والرضوان ونعيم الجنان.

أقول: وعن سائر المعاصي وعلى أصناف الطاعات وأنواع المصيبات وعلى قرب الوصول إلى الجنان.

وفي الكافي والفقيه والعياشي عن الصادق (عليه السلام) في هذه الآية أن الصبر الصيام وفيهما وقال (عليه السلام) إذا نزلت بالرجل النازلة الشديدة فليصم فان الله تعالى يقول استعينوا بالصبر يعني الصيام، والعياشي عن الكاظم (عليه السلام) مثله والصلاة الصلوات الخمس والصلاة على النبي وآله الطاهرين.

أقول: وكل صلاة فريضة أو نافلة لما روي في المجمع والعياشي عن الصادق (عليه السلام) ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غم من غموم الدنيا أن يتوضأ ثم يدخل مسجده فيركع ركعتين فيدعو الله فيهما أما سمعت الله يقول: ﴿واستعينوا بالصبر والصلاة﴾.


1- اللام متعلق بالحقوق لا بيؤدون، منه قدس سره.

2- قال مجاهد أربع آيات من أول السورة نزلت في المؤمنين وآيتان بعدهما نزلتا في الكافرين وثلاث عشرة آية بعدها نزلت في المنافقين. منه قدس سره.

3- البخبخة: قوله بخ بخ لك يا أبا الحسن أصبحت مولاي ومولى كل مؤمن ومؤمنة. منه قدس سره.

4- وما روته العامة أن سلمان (رضي الله عنه) قال: إن أهل هذه الآية لم يأتوا بعد فلعله أراد أن الأصل فيها المسمون زورا بخلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهم لم يأتوا بإفسادهم بعد هذا كان قوله هذا قبل وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وإلا فأراد به أن أهلها ليس الذين كانوا فقط بل وسيكون من بعد أو من حاله حالهم. منه قدس سره.

5- قيل يعني بنور المستوقدين إن جعلت جواب لما وبنور المنافقين إن جعلت مستأنفا أو بدلا أو يكون جواب لما محذوفا للإيجاز ومن الالتباس كما في قوله تعالى: فلما ذهبوا به، وإنما لم يقل بنارهم على الأول لأن المقصود من ايقادها النور. منه قدس سره.

6- صيب: فيعل من الصوب بمعنى النزول يقال للمطر والسحاب، منه قدس سره.

7- الصاعقة: قصفة رعد هايل معها نار تمر بشئ الا حرقته من الصعق وهو شدة الصوت. (منه).

8- لعل وعسى وسوف في مواعيد الملوك يكون كالجزم بها وإنما أطلقت إظهارا لوقارهم وإشعارا بأن الرمز منهم كالصريح من غيرهم وعليه جرى وعد الله ووعيده. منه قدس الله.

9- الهضبة ما يقابل الوهدة، والرذاذ المطر الضعيف، والوابل المطر الشديد، والهطل تتابع المطر، والطل: أضعف المطر، منه قدس سره.

10- قيل والمعنى وأنتم من أهل العلم والنظر. منه قدس سره.

11- هذا الترديد في التفسير أيضا مما ينبه على أن القرآن ذو وجوه وان حمله على جميع الوجوه صحيح حق وليس من قبيل التردد كما يقع في كلام سائر المفسرين، حاشاهم عن ذلك. منه قدس سره.

12- هذا مما لفق من موضعين من تفسير الإمام (عليه السلام). منه قدس سره.

13- بالمهملة ثم المعجمة ثم الموحدة. منه قدس سره.

14- من قولهم استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا من غير أن يلوي على شئ. منه قدس سره.

15- يحتمل كون البناء للفاعل والعبادة مفعولا والضمير المستتر للجان بني الجان يعني قد طردهم الملائكة في حال إفسادهم في الأرض وتخفيفهم وتحقيرهم للعبادة وعدم اعتنائهم بها أو تقليلهم للعبادة بالنسبة إلى سابق الزمان وللمفعول والعبادة نائب الفاعل والفاعل الحقيقي أيضا الجن بني الجان بأحد المعنيين أو للمفعول ونائب الفاعل مستتر يرجع إلى الملائكة والعبادة منصوب على أنه مفعول ثان أي وقد خفف الله على الملائكة العبادة بالنسبة إلى عبادتهم في عالم الملكوت. منه قدس سره.

16- روى العياشي هذه الرواية في سورة الحجر من قوله: قال الله تعالى: إني خالق بشرا إلى قوله وهما سلالة من طين. منه قدس الله سره.

17- والمرة إحدى الطبائع الأربع من الدم والسوداء والصفراء والبلغم والمرة: القوة وشدة العقل أيضا. صحاح اللغة.

18- الضراح بضم الضاد المعجمة ثم الراء ثم الحاء المهملتين. منه قدس الله سره.

19- لعل السبعة آلاف سنة كناية عن عمر الدنيا فإن في هذه المدة يتكامل هذا النوع وينال الملائكة المسخرون له قسطهم من الكمال ولعل البيت المعمور كناية عن ملكوت قلوب الأولياء وروحا نيتها (منه).

20- في العلل عن الصادق (عليه السلام) إنما سمي آدم آدم لأنه خلق من أديم الأرض. منه قدس سره.

21- العياشي عن الصادق (عليه السلام) أنه سئل عن قول الله يا بني إسرائيل فقال هم نحن خاصة. وعن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه سمع يقول انا عبدك اسمي أحمد وانا عبد الله اسمي إسرائيل فما أمره فقد أمرني وما عناه فقد عناني. منه قدس الله سره.

22- أول أفعل لا له وقيل أصله أوءل فأبدلت همزته واوا تخفيفا بغير قياس أو أول من آل يؤول أي رجع فقلبت همزته واوا فأدغمت. منه قدس سره.

23- الإحتجان ضم الشئ واحتواؤه، منه قدس الله سره.

24- وفي المجمع عن أنس بن مالك قال قال رسول الله (ص): مررت ليلة أسرى بي على أناسي تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: هؤلاء يا جبرائيل، فقال هؤلاء خطباء من أهل الدنيا كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم. منه قدس الله سره.