الآيات 23-24
قوله تعالى: ﴿ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي والعليمي، ويعقوب " ثم لم يكن " بالياء. الباقون بالتاء. وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وحفص الا ابن شاهين " فتنتهم " بالرفع. الباقون بالنصب. وقرأ حمزة والكسائي وخلف " والله ربنا " بنصب الباء. الباقون بكسرها. من قرأ بالتاء ورفع الفتنة أثبت علامة التأنيث. وتكون (أن) في موضع نصب. وتقديره ثم لم تكن فتنتهم الا قولهم. وقد روى شبل عن ابن كثير " تكن " بالتاء " فتنتهم " نصبا مثل قراءة نافع وأبي عمرو عن عاصم. ووجهه انه أنث " ان قالوا " لما كان الفتنة في المعنى، كما قال " فله عشر أمثالها " (1) فأنث لما كانت الأمثال في المعنى الحسنات. ومثله كثير في الشعر، قال أبو علي والأول أجود من حيث كان الكلام محمولا على اللفظ. ويقوي قراءة من قرأ: (فتنتهم) بالنصب أن قوله (ان قالوا) أن يكون الاسم دون الخبر أولى لان (أن) إذا وصلت لم توصف، فأشبهت بامتناع وصفها المضمر، فكما أن المضمر إذا كان مع المظهر كان (أن يكون) الاسم أحسن، كذلك إذا كانت (أن) مع اسم غيرها كانت (أن يكون) الاسم أولى. ومن قرأ (والله ربنا) - بكسر الباء - فعلى جعل الاسم المضاف وصفا للمفرد، لان قوله (والله) جربوا ولا قسم. ولو أسقطت لقال: (الله) بالنصب ومثله قولهم: رأيت زيدا صاحبنا وبكرا جارك، ويكون قوله " ما كنا مشركين " جواب القسم. ومن نصب الباء يحتمل أمرين:
أحدهما: أن ينصبه بفعل مقدر، وتقديره: أعني ربنا.
الثاني: على النداء. ويكون قد فصل بالاسم المنادى بين القسم والمقسم عليه بالنداء، وذلك غير ممتنع، لان النداء كثير في الكلام. وقد حال الفصل بين الفعل ومفعوله في قوله: " انك آتيت فرعون وملأه زينة وأموالا في الا حياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك " (2). والمعنى آتيتهم أموالا ليضلوا ولا يؤمنوا وقد جاء الفصل بين الصلة والموصول، وهو أشدها قال الشاعر:
ذاك الذي وأبيك يعرف مالك * والحق يدفع ترهات الباطل (3)
وقال أبو عبيدة: من قرأ بالتاء المعجمة من فوقها ونصب " فتنتهم " أضمر في (يكن) اسما مؤنثا ثم يجيئ بالتاء لذلك الاسم، وإنما جعله مؤنثا لتأنيث (فتنة) قال لبيد:
فمضى وقدمها وكانت عادة * منه إذا هي عودت أقدامها (4)
فأنث الاقدام لتأنيث (عادة). وقوله: " ثم لم تكن فتنتهم " أي لم تكن بليتهم التي ألزمتهم الحجة وزادتهم لائمة الا قولهم. ومعنى الآية: أنه تعالى لما ذكر قصص هؤلاء المشركين الذين كانوا مفتنين بشركهم، أعلم النبي صلى الله عليه وآله أن افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه لم يكن الا أن تبرءوا منه، وقالوا انهم ما كانوا مشركين، كما يقول القائل إذا رأى إنسان انسانا يحب غاويا فإذا وقع في هلكة تبرأ منه فيقول له ما كانت محبتك لفلان الا أن انتفيت منه. فان قيل: كيف قالوا وحلفوا أنهم ما كانوا مشركين - وقد كانوا مشركين - وهل هذا إلا كذب، والكذب قبيح ولا يجوز من أهل الآخرة أن يفعلوا قبيحا، لأنهم ملجؤون إلى ترك القبيح، لأنهم أو صح لم يكونوا ملجئين وكانوا مختارين، وجب أن يكونوا مزجورين عن فعل القبيح، وإلا أدى إلى اغرائهم بالقبيح وذلك لا يجوز، ولو زجروا بالوعيد عن القبائح لكانوا مكلفين ولوجب أن يتناولهم الوعد والوعيد، وذلك خلاف الاجماع، وقد وصفهم الله تعالى أيضا بأنهم كذبوا على أنفسهم، فلا يمكن جحد أن يكونوا كاذبين، فكيف يمكن أن يرفع ذلك؟ وما الوجه فيه؟ والجواب عن ذلك من وجوه:
أحدها: ما قاله البلخي: إن القوم كذبوا على الحقيقة، لأنهم كانوا يعتقدون أنهم على الحق، ولا يرون أنهم مشركون، كالنصارى ومن أشبههم، فقالوا في الموقف ذلك.
وقيل: ان يقع بهم العذاب فيعلموا بوقوعه أنهم كانوا على باطل فيقولوا " والله ربنا ما كنا مشركين " وهم صادقون عند أنفسهم وكذبهم الله في ذلك، لان الكذب هو الاخبار بالشئ لا على ما هو به، علم المخبر بذلك أو لم يعلم، فلما كان قولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " كذبا في الحقيقة جاز أن يقال لهم " أنظر كيف كذبوا على أنفسهم. قال البلخي: ويدل على ذلك قوله " وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي ذهب عنهم وأغفلوه، لأنهم لم يكونوا نظروا نظرا صحيحا ولم يجاروا في نظرهم الألف والعادة، فيعلموا في هذا الوقت أن قولهم شرك، ولو صاروا إلى العذاب لعلموا أنهم كانوا مشركين، واستغنوا بذلك، لكن هذا القول يكون عند الحشر. وقيل: الجزاء بدلالة أول الآية.
وقال مجاهد: قوله " أنظر كيف كذبوا على أنفسهم " تكذيب من الله إياهم. وقال الجبائي: قولهم " والله ربنا ما كنا مشركين " اخبار منهم أنهم لم يكونوا مشركين عند أنفسهم في دار الدنيا، لأنهم كانوا يظنون أنهم على الحق، فقال الله تعالى مكذبا لهم " أنظر " يا محمد " كيف كذبوا على أنفسهم " في دار الدنيا، لا أنهم كذبوا في الآخرة، لأنهم كانوا مشركين على الحقيقة، وان اعتقدوا أنهم على الحق.
وقوله: " وضل عنهم ما كانوا يفترون " أي ضلت عنهم أوثانهم التي كانوا يعبدونها ويفترون الكذب بقولهم: إنها شفعاؤنا عند الله غدا، فذهبت عنهم في الآخرة فلم يجدوها، ولم ينتفعوا بها.
وقال قوم: انه يجوز أن يكذبوا يوم القيامة للذهول والدهش، لأنهم يصيرون كالصبيان الذين لا تمييز لهم ولا تحصيل معهم - اختاره أحمد ابن علي بن الاخشاد. وأجاز النجار أن يكفروا في النار فضلا عن وقوعه قبل دخولهم فيها، وهذا بعيد. والوجهان الأولان أقرب.
وقيل: فيه وجه آخر، وهو أنهم أملوا أملا فخاب أملهم ولم يقع الامر على ما أرادوا، لان من عادة الناس أنهم إذا عوقبوا بعقوبة فتكلموا واستعانوا وصاحوا فان العذاب يسهل عليهم بعض السهولة، وظنوا أن عذاب الآخرة كذلك، فقالوا: " والله ربنا ما كنا مشركين " وقالوا " ربنا ظلمنا أنفسنا " (5) الجن والإنس نجعلهما تحت أقدامنا " (6) فأملوا أن يخف عنهم العذاب بمثل هذا الكلام على عادة الدنيا، فلم يخف ولم يكن لهم فيه راحة، فقال الله " انظر كيف كذبوا على أنفسهم " أي خابوا فيما أملوا من سهولة العذاب وذلك مشهور في كلام العرب، قال الشاعر:
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها * مراغمة ما دام للسيف قائم (7).
وقال آخر:
كذبتم وبيت الله لا تنكحونها * بني شاب قرناها تصر وتحلب (8)
أي كذبكم أملكم. وقال أبو داود الأزدي:
قلت لما نصلا من فتنة * كذب العير وإن كان برح (9)
والمعنى أمل أنه يتخلص بشئ فكذبه أمله، لأنه ظن أنه إذا مر بارحا وهو أن يأخذ في ناحية الشمال إلى ناحية اليمين لم يتهيأ لي طعنه، فلما قلب رمحه وطعنه قال: كذب العير أي كذب أمله. و (الفتنة) في الآية معناها المعذرة - في قول قتادة - لأنها اعتذار عن الفتنة، فسميت بأسم الفتنة. وقال قوم: هي المحنة.
وقال قوم: تقديره عاقبة فتنتهم. وفتنتهم يجوز أن تكون بمعنى اغترارهم أي اغتروا بهذا الكذب وظنوا أنه سينجيهم، وكذبوا على أنفسهم لما رجعت مضرته إليهم صار عليهم وان قصدوا أن يكون نهم. وفي الآية دلالة على بطلان قول من قال المعارف ضرورية، لان الله تعالى أخبر عنهم أنهم قالوا " والله ربنا ما كنا مشركين " فلا يخلو أن يكونوا صادقين أو كاذبين، فان كانوا صادقين لأنهم كانوا عارفين في دار الدنيا فقد كذبهم الله في ذلك بقوله " أنظر كيف كذبوا " وان كانوا كاذبين لأنهم كانوا عارفين، فقد وقع منهم القبيح في الآخرة، وذلك لا يجوز. ومعنى الآية على ما بيناه من أنهم أخبروا أنهم لم يكونوا مشركين عند أنفسهم في دار الدنيا وان الله كذبهم وأنهم كانوا كاذبين على الحقيقة وان اعتقدوا خلافه في الدنيا. فأما معارفهم في الآخرة فضرورية عند البصريين، وعند البلخي ومن وافقه، حاصلة على وجه هم ملجؤون إليها، فعلى الوجهين معا لا يجوز أن يقع منهم القبيح لا محالة.
1- سورة 6 الانعام آية 160.
2- سورة 10 يونس آية 88.
3- اللسان (تره).
4- اللسان (قدم) وروايته (عردت) بدل (عودت).
5- سورة 7 الأعراف آية 22.
6- سورة 41 حم السجدة آية 29.
7- مجمع البيان 2: 290.
8- قائله الأسدي. اللسان (قرن).
9- اللسان (كذب).