الآيات 11-23 من سورة عبس
قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ، فَمَن شَاء ذَكَرَهُ، فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ، مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ، بِأَيْدِي سَفَرَةٍ، كِرَامٍ بَرَرَةٍ، قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ، كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ﴾
يقول الله تعالى (كلا) أي ليس الامر ينبغي أن يكون على هذا، وقوله (إنها تذكرة) أي كلا إن السورة تذكرة (فمن شاء ذكره) أي التنزيل أو الوعظ. وقال قوم: الهاء عماد، والمبتدأ محذوف وتقديره إنها هي تذكرة. والتذكرة حضور الموعظة ففيها أعظم الفائدة وفي الغفلة أكبر الآفة. والفرق بين التذكرة والمعرفة أن التذكرة ضد الغفلة والمعرفة تضاد الجهل والسهو، فكلاهما يتعاقبان على حال الذكر دون السهو، كتعاقب العلم وأضداده على حال الذكر دون السهو، والذكر معظم، لأنه طريق إلى العلم بالحق من الباطل والصحيح من الفاسد. وقيل: إن قوله (كلا) دال على أنه ليس له ان يفعل ذلك في ما يستأنف. فاما الماضي فلم يدل على أنه معصية، لأنه لم يتقدم النهي عنه. وقوله (فمن شاء ذكره) دليل على بطلان مذهب المجبرة في أن القدرة مع الفعل، وأن المؤمن لا قدرة له على الكفر، وأن الكافر لا يقدر على الايمان، لأنه تعالى: بين أن من شاء ان يذكره ذكره لأنه قادر عليه. وقوله (في صحف مكرمة) أي ما ذكرناه تذكرة في صحف مكرمة أي معظمة مبجلة، ووصفت الصحف بأنها مكرمة تعظيما لما تضمنته على الحكمة. وقوله (مرفوعة مطهرة) أي مصونة عن أن تنالها أيدي الكفار الأنجاس. وقال الحسن: مطهرة من كل دنس. وقوله (مرفوعة مطهرة) أي رفعها الله عن دنس الأنجاس ونزهها عن ذلك. وقوله (بأيدي سفرة) قيل السفرة ملائكة موكلون بالاسفار من كتب الله. والسفرة الكتبة لأسفار الحكمة، واحدهم سافر، كقولك كاتب وكتبة، وواحد الاسفار سفر. وأصله الكشف من الامر، سفرت المرأة إذا كشفت عن وجهها، فالكاتب يسفر بالكتاب عما في النفس. وقال ابن عباس: السفرة الكتبة، وفي رواية أخرى عنه إنها الملائكة. وقال قتادة: هم القراء: وقيل: هم الملائكة الذين يسفرون بالوحي بين الله ورسوله، وسفير القوم الذي يسفر بينهم في الصلح، وسفرت بين القوم إذا أصلحت بينهم، قال الشاعر:
ولم أدع السفارة بين قومي * وما أمشي بغش إن مشيت (1)
واسفر الصبح إذا أضاء. وقوله (كرام بررة) من صفة السفرة، وصفهم الله بأنهم كرام، وهو جمع كريم، وهو الذي من شأنه أن يأتي بالخير من جهته مهنا من غير شائب يكدره. وهي صفة مدح ومنه أخذت الكرمة لشرف ثمرتها، والكرم يتعاظم فالنبي أكرم ممن ليس بنبي، والمؤمن أكرم ممن ليس بمؤمن. و (البررة) جمع بار، تقول بر فلان فلانا يبره فهو بار إذا أحسن إليه ونفعه. والبر فعل النفع اجتلابا للمودة. والبار فاعل البر، وجمعه بررة مثل كاتب وكتبة. وأصله اتساع النفع منه ومنه البر سمي به تفاؤلا باتساع النفع به، ومنه البر لاتساع النفع به. ورجل بر، وامرأة برة والجمع بررة ولا يجمع الا على هذا استغنى به. وقوله (قتل الانسان ما أكفره) معناه لعن الانسان، قال مجاهد: وهو الكافر. وقيل: معناه إنه حل محل من يدعى عليه بالقتل في ما له بقبح الفعل، فيخرجه مخرج الدعاء عليه ولا يقال: إن الله دعا عليه بالقتل لقبح اللفظ بذلك لما يوهم من تمني المدعو به. ومعنى (ما أكفره) أي شئ أكفره ؟! على وجه التقريع له والتوبيخ. وقيل معناه النفي، وتقديره ما أجحده لنعم الله مع ظهورها (من أي شئ خلقه) تعجيبا له، لأنه يعلم أن الله خلقه من نطفة، ثم بين تعالى مماذا خلقه فقال (من نطفة خلقه فقدره) فالتقدير جعل الشئ على مقدار غيره، فلما كان الانسان قد جعل على مقدار ما تقتضيه الحكمة في أمره من غير زيادة ولا نقصان كان قد قدر أحسن التقدير، ودبر أحسن التدبير (ثم السبيل يسره) أي سهل له سبيل الخير في دينه ودنياه بأن بينه له وأرشده إليه ورغبه فيه، فهو يكفر هذا كله ويجحده ويضيع حق الله عليه في ذلك من الشكر وإخلاص العبادة. وقال ابن عباس وقتادة والسدي: يسر خروجه من بطن أمه. وقال مجاهد: سهل له طريق الخير والشر، كقوله (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) (2). وقال الحسن: سبيل الخير، وقال ابن زيد: سبيل الثواب، وقال الحسن (يسره) معناه بصره طريق الهدى والضلال. وقيل يسر خروجه من بطن أمه، فإنه كان رأسه إلى رأس أمه ورجلاه إلى رجليها، فقلبه الله عند الولادة ليسهل خروجه منها. وقالوا: يسرى ويسراة جمعوه على (فعلة) وأجروه مجرى (فاعل) من الصحيح. وقوله (ثم أماته فأقبره) فالإماتة أحداث الموت. وفي الناس من قال: الإماتة عرض يضاد الحياة مضادة المعاقبة على الحال الواحدة، وهي حال تعديل البنية الحيوانية، وذلك أن ما لا يصح أن تحله حياة لا يصح أن يحله موت. وقال قوم: الموت عبارة عن نقض البنية الحيوانية أو فعل ما ينافي ما تحتاج إليه الحياة من الرطوبات والمعاني. وقوله (فأقبره) الاقبار جعل القبر لدفن الميت فيه، يقال: أقبره إقبارا، والقبر الحفر المهيأ للمدفن فيه، ويقال: أقبرني فلانا أي جعلني اقبره فالمقبر هو الله تعالى يأمر عباده أن يقبروا الناس إذا ماتوا، والقابر الدافن للميت بيده قال الأعشى:
لو أسندت ميتا إلى نحرها * عاش ولم ينقل إلى قابر
حتى يقول الناس مما رأوا * يا عجبا للميت الناشر (3)
وقوله (ثم إذا شاء انشره) فالانشار الاحياء للتصرف بعد الموت كنشر الثوب بعد الطي انشر الله الموتى فنشروا كقولهم أحياهم فحيوا، والمشيئة هي الإرادة والمعنى إذا شاء الله تعالى أن يحيي الميت أحياه - وهو قول الحسن - للجزاء بالثواب والعقاب. وقوله (كلا لما يقض ما أمره) معناه كلا لما لم يقض ما عليه مما أمره الله به، لأنه قد أمره بأشياء واجبة فلم يفعلها: من إخلاص عبادته وشكره بحسب مقتضى نعمه. وقال مجاهد: لا يقضي أحد أبدا كل ما افترض الله عليه.
1- الطبري 30 / 30 والقرطبي 19 / 214.
2- سورة 76 الانسان آية 3.
3- قد مر في 4 / 460 و 7 / 496 وهو في ديوانه 93.