الآيات 41-50 من سورة المرسلات

قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ، وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ، كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُم مُّجْرِمُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ، وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ، فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ﴾

لما ذكر الله تعالى الكفار وما أعد لهم من ضروب العقاب وأنواع العذاب ترهيبا وتزهيدا في مثله، ذكر المؤمنين المتقين للمعاصي وبين ما أعده لهم من أنواع النعيم وضروب اللذات فقال (إن المتقين) ومعناه الذين اتقوا عقاب الله باجتناب معاصيه وطلبوا ثوابه بفعل طاعاته (في ظلال) وهو جمع ظل، وهو الحجاب العالي المانع من كل أذى، فلاهل الجنة حجاب من كل أذى لان هواء الجنة مناف لكل أذى، فهم من طيبة على خلاصة. وقيل في ظلال من قصور الجنة وأشجارها (وعيون) وهي ينابيع الماء التي تجري في ظل الأشجار. وقيل: ان تلك العيون جارية في غير أخدود، لان ذلك امتع بما يرى من حسنه وصفائه على كنهه من غير ملابسة شئ له، وليس هناك شئ إلا على أحسن صفاته، لان الله تعالى قد شوق إليه أشد التشويق ورغب فيه أتم الترغيب (وفواكه) وهي جمع فاكهة، وهي ثمار الأشجار التي من شأنها أن تؤكل، وقد يكون من الثمر ما ليس كذلك كالثمر المر، فإنه ليس من الفاكهة. وقوله (مما يشتهون) يعني لهم فاكهة من جنس ما يشتهونه. ثم قال تعالى (كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون) صورته صورة الامر والمراد به الإباحة. وقال قوم: هو أمر على الحقيقة، لان الله تعالى يريد منهم الأكل والشرب في الجنة، وإنهم إذا علموا ذلك زاد في سرورهم، فلا تكون إرادته لذلك عبثا، والهنئ هو الذي لا أذى فيه فيما بعد. وقيل: الهنئ النفع الخالص من شائب الأذى. والشهوة معنى في القلب إذا صادفت المشتهى كان لذة، وضده النفار إذا صادفه كان ألما، وجاء الكلام على التقابل للكافرين من قوله (في ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب) مقابل أهل الجنة في ظلال قصور الجنة وأشجارها وقوله (انا كذلك نجزي المحسنين) اخبار منه تعالى أنه كما جازى هؤلاء المتقين بما ذكره من النعيم مثل ذلك يجازي كل محسن عامل بطاعة الله. وفى ذلك دلالة على أن كل احسان خالص للعبد فله به الثواب والحمد، وانه طاعة لله، وإن ما ليس باحسان من فعل خارج عن هذا الحكم. وقوله (ويل يومئذ للمكذبين) قد مضى تفسيره. ثم عاد إلى خطاب الكفار فقال لهم على وجه التهديد والوعيد (كلوا وتمتعوا) في دار الدنيا وتلذذوا بما تريدون وانتفعوا بما تشتهون (قليلا) لان أيام الدنيا قليلة، فالتمتع الحصول في أحوال تلذ، تمتع تمتعا واستمتع استمتاعا وأمتعه غيره امتاعا والتمتع والتلذذ واحد ونقيضه التألم. وقوله (إنكم مجرمون) اخبار منه تعالى للكفار بأنكم وإن تمتعتم قليلا في الدنيا فإنكم عصاة وكفار وما لكم إلى النار وعذابها. والاجرام فعل ما يقطع المدح ويحصل بدله الذم، يقال: أجرم إجراما واجترم اجتراما وتجرم عليه أي تطلب له الجرم (ويل يومئذ للمكذبين) بينا معناه. وقوله (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون) فالركوع هو الانخفاض على وجه الخضوع، ويعبر به عن نفس الصلاة ويقال: قد ركعت وبقي على ركوع أي صلاة والمراد به ههنا - الصلاة، والمعنى إن هؤلاء الكفار إذا دعوا إلى الصلاة لا يصلون لجهلهم بما في الصلاة من الخير والبركة. وقيل: انه يقال لهم ذلك في الآخرة كما قال (يدعون إلى السجود فلا يستطيعون) ذكره ابن عباس. وقال قتادة، يقال لهم ذلك في الدنيا، فان الصلاة من الله بمكان. وقال مجاهد: عنى بالركوع - هنا - الصلاة وقوله (ويل يومئذ للمكذبين) قد فسرناه، فكأنه قيل لهم يجب عليكم الركوع بالخضوع لله فاركعوا فأخبر عنهم أنهم لا يركعون تكذيبا بهذا الخبر، فلذلك قال عقيب ذلك (ويل يومئذ للمكذبين) وإلا فقوله (اركعوا) أمر من الله تعالى، ولا يقال فيمن أمر بالشئ فلم يفعل انه كذب، وقيل: إن ما تكرر في هذه السورة من قول (ويل يومئذ للمكذبين) ليس على وجه التكرار في المعنى، لان معناه ويل للمكذبين بما ذكره قبله من الاخبار، وقيل يريد أنه كذب بالمخبر الذي يليه، وهو وجه القول الثاني والثالث والرابع إلى آخر السورة، على هذا المنهاج من أنه يلزمه الويل بالتكذيب بالذي يليه والذي قبله على التفصيل لا على الاجمال في أنه لا يلزمه حتى يكذب بالجميع. وقوله (فبأي حديث بعده يؤمنون) معناه إنه إذا أتى القرآن باظهر البرهان وكفروا به فليس ممن يفلح بالايمان بكلام غيره، لان من لم يؤمن بما فيه المعجزة الظاهرة والآية الباهرة لا يؤمن بغيره.