الآيات 26-40 من سورة القيامة
قوله تعالى: ﴿كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ، وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ، وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ، فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى، وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى، ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى، أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى، أَيَحْسَبُ الْإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى، أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى، ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى، فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى، أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِيَ الْمَوْتَى﴾
القراءة:
قرأ ابن عامر وحفص ورويس (من مني يمنى) بالياء على التذكير ردوه إلى المني. الباقون بالتاء حملا على النطفة. يقول الله تعالى (كلا إذا بلغت) يعني النفس أو الروح، ولم يذكر لدلالة الكلام عليه كما قال (ما ترك على ظهرها) (1) يعني على ظهر الأرض. وإنما لم يذكر لعلم المخاطب به، و (التراقي) جمع ترقوة وهي مقدم الحلق من أعلى الصدر، تترقى إليه النفس عند الموت، واليها يترقى البخار من الجوف، وهناك تقع الحشرجة، وقوله (وقيل من راق) فالراق طالب الشفاء يقال: رقاه يرقيه رقية إذا طلب له شفاء بأسماء الله الجليلة وآيات كتابه العظيمة. وأما العوذة فهي رفع البلية بكلمات الله تعالى. وقال أبو قلابة والضحاك وابن زيد وقتادة: معنى (راق) طبيب شاف. أي أهله يطلبون له من يطببه ويشفيه ويداويه فلا يجدونه. وقال ابن عباس وأبو الجوزاء: معناه قالت الملائكة: من يرقا بروحه أملائكة الرحمة أم ملائكة العقاب. وقال الضحاك: أهل الدنيا يجهزون البدن، وأهل الآخرة يجهزون الروح. وقوله (وظن أنه الفراق) معناه علم عند ذلك أنه فراق الدنيا والأهل والمال والولد. والفراق بعاد الآلاف وهو ضد الوصال يقال: فارقه يفارقه فراقا. وقد صار علما على تفرق الأحباب وتشتت الآلاف. وقوله (والتفت الساق بالساق) قال ابن عباس ومجاهد: معناه التفت شدة أمر الآخرة بأمر الدنيا. وقال الحسن: التفت حال الموت بحال الحياة. وقال الشعبي وأبو مالك: التفت ساقا الانسان عند الموت - وفي رواية أخرى عن الحسن - أنه قال: التفات الساقين في الكفن. وقيل: ساق الدنيا بساق الآخرة. وهو شدة كرب الموت بشدة هول المطلع. وقال الحسن: معناه التفت شدة أمر الدنيا بشدة أمر الآخرة. وقيل: معناه اشتداد الامر عند نزع النفس حتى التفت ساق على ساق عند تلك الحال، يقولون: قامت الحرب على ساق عند شدة الامر قال الشاعر:
فإذا شمرت لك عن ساقها * فويها ربيع ولا تسأم (2)
وقوله (إلى ربك يومئذ المساق) معناه إن الخلائق يساقون إلى المحشر الذي لا يملك فيه الامر. النهي غير الله. والمساق مصدر مثل السوق. وقوله (فلا صدق ولا صلى) قال الحسن: معناه لم يتصدق ولم يصل (ولكن كذب) بالله (وتولى) عن طاعته. وقال قوم (فلا صدق) بربه (ولا صلى) وقال قتادة: معناه فلا صدق بكتاب الله ولا صلى لله (ولكن كذب) به (وتولى) عن طاعته. وقال قوم: معناه (فلا صدق) بتوحيد الله، ولا نبيه بل كذب به. والصدقة العطية للفقراء والزكاة الصدقة الواجبة على المال المعلق بنصاب مخصوص. والصلاة عبادة أولها التكبير وآخرها التسليم، وفيها قراءة وأركان مخصوصة. والتولي هو الاعراض عن الشئ، فلما كان هذا الجاهل معرضا عن الحق بتركه إلى خلافه من الباطل لزمه الذم بهذا الوصف. وقوله (ثم ذهب إلى أهله يتمطى) فالتمطي تمدد البدن من الكسل إما كسل مرض أو كسل تثاقل عن الامر. والذم بكسل التثاقل عن الداعي إلى الحق. وقال مجاهد وقتادة: معنى يتمطى بتختر. وقيل: الأصل في يتمطى يلوي مطاه، والمطاء الظهر، ونهي عن مشية المطيطيا، وذلك أن يلقي الرجل بدنه مع التكفي في مشيه. وقيل: نزلت الآية في أبي جهل بن هشام بن المغيرة المخزومي. وقوله (أولى لك فأولى ثم أولى لك فأولى) قال قتادة: هو وعيد على وعيد. وقيل معنى (أولى لك) وليك الشر يا أبا جهل، وقيل: معناه الذم أولى لك من تركه إلا أنه حذف، وكثر في الكلام حتى صار بمنزلة الويل لك. وصار من المتروك المحذوف الذي لا يجوز اظهاره. وقيل أولى لك، فأولى لك على الأول والذم لك على الثاني والثالث. والأولى في العقل هو الأحق بالقرب من داعي العقل، كأنه أحق بوليه. ثم قال على وجه الوعيد والتهديد للكفار (أيحسب الانسان) ومعناه أيظن الانسان الكافر بالبعث والنشور الجاحد لنعم الله (أن يترك سدى) ومعناه أن يترك مهملا عن الأمر والنهي، فالسدي همل من غير أمر يؤخذ به، ويكون فيه تقويم له، واصلاح لما هو أعود عليه في عاقبة أمره وأجمل به في دنياه وآخرته. وقال ابن عباس ومجاهد: معنى (أن يترك سدى) أي هملا لا يؤمر ولا ينهى. وقيل: أيحسب الانسان أن يترك مهملا فلا يؤمر ولا ينهى مع كمال عقله وقدرته. ثم قال على وجه التنبيه على أن الله خلقه للتكليف والعبادة، وعلى انه قادر على اعادته واحيائه بعد موته (ألم يك نطفة من مني يمني) فالمني نطفة الذكر التي يجيئ منها الولد (ثم كان علقة) أي قطعة من الدم المنعقد جامدة لا تجري فخلق الله منها هذا الانسان الذي هو في أحسن تقويم، فسبحان من قدر على ذلك. وقوله (فخلق فسوى) أي خلق من العلقة خلق سويا شق له السمع والبصر. وقال الفراء: معنى (فسوى) فسواه (فجعل منه) من ذلك المني (الزوجين الذكر والأنثى) فمن قدر على ذلك لا يقدر على أن يحيي الموتى بعد ان كانوا أحياء ؟! بلى والله قادر على ذلك، لان جعل النطفة علقة وخلق العلقة مضغة وخلق المضغة عظما وكسو العظم لحما ثم إنشاؤه خلقا آخر حيا سليما مركبا فيه الحواس الخمس كل واحدة منها يصلح لما لا يصلح له الأخرى، وخلق الذكر والأنثى اللذين يصح منهما التناسل على ما قدره الله أعجب وأبدع من إعادة الميت إلى ما كان من كونه حيا، فمن قد ر على الأول أولى بأن يكون قادرا على الثاني، فالاحياء ايجاد الحياة، والإماتة ايجاد الموت عند من قال أن الموت معنى، ومن قال: ليس بمعنى، قال: هو نقض بنية الحي على وجه الاختراع. وقوله (فجعل منه) قيل يعني من الانسان (الزوجين الذكر والأنثى) وقيل من المني (أليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى) وقال قتادة: كان رسول الله صلى الله عليه وا له إذا ختم السورة، يقول: سبحانك الله بلى، وهو المروي عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما السلام وفي الآية دلالة على صحة القياس العقلي، وهو أن من قدر على احياء الانسان قادر على احيائه بعد الإماتة، وقال الفراء: يجوز في العربية يحيي الموتى بالادغام بأن ينقل الحركة إلى الحاء وتدغم احدى اليائين في الأخرى وانشد:
وكأنها بين النساء سبيكة * تمشي بسدة بيتها بتعي (3)
1- سورة 35 فاطر آية 45.
2- تفسر الطبري 29 / 107 وقد مر في 10 / 87.
3- مر في 5 / 147.