الآيات 26-35 من سورة المدّثِّر

قوله تعالى: ﴿سَأُصْلِيهِ سَقَرَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ، لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ، لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ، عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ، وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ، كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ، إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ﴾

القراءة:

قرأ نافع وحمزة وحفص عن عاصم (إذ أدبر) باسكان الذال وقطع الهمزة من (أدبر) الباقون بفتح الذال والألف معها (دبر) بغير الف. وقرأ ابن مسعود بزيادة الف، ومن قال (دبر، وأدبر) فهما لغتان. قيل: هو مثل قبل واقبل والاختيار عندهم (أدبر) لقوله (إذا أسفر) ولم يقل إذا سفر، لان ابن عباس، قال لعكرمة: حين دبر الليل، لان العرب تقول: دبر فهو دابر، وحجة نافع وحمزة قول النبي صلى الله عليه وآله (إذا اقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصيام) ثم قال أبو عبيدة: أدبر ولى، ودبرني جاء خلفي. لما حكى الله تعالى صفات الكافر الذي ذكره، وهو الوليد بن المغيرة، وانه فكر وقدر إلى أن قال: هذا القرآن سحر مأثور، وهو قول البشر، قال الله تعالى مهددا له ومتوعدا (سأصليه سقر) أي ألزمه جهنم، والاصلاء إلزام موضع النار أصلاه يصليه إصلاه واصطلى فهو يصطلي اصطلاء، وصلاه يصليه، واصله اللزوم. وسقر اسم من أسماء جهنم، ولم يصرف للتعريف والتأنيث وأصله من سقرته الشمس تستقره سقرا إذا آلمت دماغه. وقد سميت النار سقر لشدة إيلامها، ومنه الصقر بالسين والصاد، لان شدته في نفسه كشدة الألم في أذى صيده. وقوله (وما أدراك ما سقر) إعظاما للنار وتهويلا لها أي ولم يعلمك الله سقر على كنهها وصفتها، ثم وصف بعض صفاتها فقال (لا تبقي ولا تذر) وقال مجاهد: معناه لا تبقي من فيها حيا، ولا تذره ميتا. وقال غيره: لا تبقي أحدا من أهلها إلا تناولته، ولا تذره من العذاب. والابقاء ترك شئ مما اخذ، يقال أبقى شيئا يبقيه ابقاء، وأبقاه الله أي أطال مدته. والباقي هو المستمر الوجود. وقوله (لواحة للبشر) أي مغيرة لجلد الانسان الذي هو البشرة - في قول مجاهد - وقال المؤرج: لواحة بمعنى حراقة، وبه قال الفراء. وقال غيرهما: معناه تلوح لجميع الخلق حتى يروها، كما قال (وبرزت الجحيم لمن يرى) (1) لأنه لا يجوز أن يصفها بأنها تسود البشرة مع قوله (إنها لا تبقي ولا تذر) والتلويح تغير اللون إلى الأحمر والتلويح بالنار تغير بشرة أهلها إلى الاحمرار، يقال: لوحته الشمس تلوحه تلويحا فهي لواحة على المبالغة في كثرة التلويح، والبشر جمع بشرة، وهي ظاهر الجلدة، ومنه سمي الانسان بشرا، لأنه ظاهر الجلدة، بتعريه من الوبر والريش والشعر الذي يكون في غيره من الحيوان في غالب أمره. وقوله (عليها تسعة عشر) أي على سقر تسعة عشر من الملائكة. وإنما خص بهذه العدة لتوافق صحة الخبر لما جاء به الأنبياء قبله صلى الله عليه وآله، ويكون في ذلك مصلحة للمكلفين. وقد بين ذلك بقوله (وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم) أي لم نجعل من يتولى تدبير النار إلا من الملائكة ولم نجعلهم على هذه العدة (إلا فتنة) ومحنة وتشديدا في التكليف (للذين كفروا) نعم الله وجحدوا ربوبيته ليلزمهم النظر في ذلك، فلما كانت هذه العدة التي جعلت عليها الملائكة يظهر عندها ما كان في نفس الكافر مما يقتضيه كفره، كان فتنة له، لان الفتنة هي المحنة التي تخرج ما في النفس من خير أو شر باظهار حاله كاظهار الحكاية للمحكي والملك عبارة عما كان على خلاف صورة الجن والإنس من المكلفين. وقال قوم: لا يكون ملكا إلا رسولا لأنه من الرسالة، كما قال الهذلي:

الكني إليها وخير الرسو * ل أعلمهم بنواحي الخبر (2)

واصله ملاك بالهمز كما قال الشاعر:

فلست لا نسي ولكن بملاك * تنزل من جو السماء يصوب (3)

والملك عظيم الخلق شديد البطش كريم النفس. والأصل نفسه منشرحة بالطاعة انشراح الكريم بالجود، وأصله من النور، ووجه دلالة هذه العدة من الملائكة على نبوة النبي صلى الله عليه وآله هو انه إذا كان الله - عز وجل - قد اخبر به في الكتب المتقدمة ولم يكن محمد صلى الله عليه وآله ممن قرأها ولا تعلمها من أحد من الناس دل على أن الله أعلمه وانزل عليه به وحيا أبانه به من جميع الخلق ليدل على صدقه مع أنه أحد الأشياء التي أخبر بها على هذه الصفة (ليستيقن الذين أوتوا الكتاب) والتقدير ليعلم أهل الكتاب يقينا ان محمدا صادق من حيث اخبر بما هو في كتبهم من غير قراءة لكتبهم ولا تعلم منهم (ويزداد الذين آمنوا إيمانا) أي ويزداد بذلك أيضا المؤمنون الذين عرفوا الله إيمانا مضافا إلى ايمانهم. ووجه المحنة على الكفار بتكليفهم ان يستدلوا حتى يعرفوا ان الله تعالى قادر ان يقوي هذه العدة من الملائكة بما يفي بتعذيب أهل النار على ما هم عليه من الكثرة (ولا يرتاب) أي لا يشك (الذين أوتوا الكتاب) في خبره ولا يرتاب أيضا (المؤمنون) في خبره. وقوله (وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون) ومعناه لئلا يقول الذين في قلوبهم شك ونفاق (ماذا أراد الله بهذا مثلا) اي أي شئ أراد الله بهذا مثلا، وقيل اللام في قوله (وليقول الذين في قلوبهم مرض) لام العاقبة كما قال (فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا) (4) فقال الله تعالى (كذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء) أي مثل ما فضح الله هؤلاء الكفار وذمهم مثل ذلك يضل من يشاء من الكفار. والاضلال - ههنا - اظهار فضيحة الكفار بما يوجب الذم، ومعناه الحكم عليهم بالضلال عن الحق، والاخبار بأنهم يستحقون اللعن بتكذيبهم النبي صلى الله عليه وآله، وما انزل عليه. ونقيضه الهداية أي ويحكم بهداية المؤمنين إلى الحق ومصيرهم إلى الطاعة، وتصديقهم بالحق عند نزوله وقبولهم له. وقال ابن عباس وقتادة والضحاك: عدة الملائكة الموكلين بالنار في التوراة والإنجيل تسعة عشر. ثم اخبر تعالى فقال (وما يعلم جنود ربك إلا هو) أي لا يعلم جنود الله إلا الله. ثم قال (وما هي إلا ذكرى للبشر) قيل معناه إن النار في الدنيا تذكير بالنار في الآخرة. وقال قتادة ومجاهد: النار الموصوفة بهذه الصفة ذكرى للبشر وعظة لهم. وقال البلخي: إلا ذكرى للبشر أي الجنود ذكرى أي عظة للبشر، لان الله تعالى لا يحتاج إلى ناصر ومعين. ثم قال (كلا والقمر) أي حقا ثم اقسم بالقمر (والليل إذ ادبر) قيل معناه إذا ولى يقال: دبر وادبر، وقد قرئ بهما. وقيل: إنما دبر الليل بان جاء بعده النهار وآخره. وتقول العرب: قبح الله ما قبل منك وما دبر (والصبح إذا أسفر) أي أضاء وأنار - في قول قتادة - وهو قسم آخر. وقال قوم: التقدير ورب هذه الأشياء، لان اليمين لا يكون إلا بالله. وقال قوم: معنى قوله (والصبح إذا أسفر) أي كشف عن الظلام وأنار الأشخاص. وقوله (انها لإحدى الكبر) جواب القسم. وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك: معناه إن النار لإحدى الكبر. وقال قوم: ان هذه الآية لإحدى الكبر. والكبر جمع الكبرى، وهي العظمى وروي عن ابن كثير أنه (قرأ إنها لحدي الكبر) لا يهمزه ولا يكسر يسقط الهمزة تخفيفا، كقولهم في زيد الأحمر زيد لحمر. وفي أصحاب الأيكة أصحاب ليكة. والاختيار قطع الألف، لان العرب إذا حذفت مثل هذا نقلت حركة الهمزة إلى ما قبلها، واللام قبل هذه الهمزة متحركة، واللام في الأحمر لام التعريف ساكنة.


1- سورة 79 النازعات آية 36.

2- مر في 8 / 11، 299.

3- اللسان (ملك).

4- سورة 28 القصص آية 8.