الآيات 26-35 من سورة المعارج
قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ﴾
القراءة:
قرأ (شهاداتهم) على الجمع حفص ويعقوب وعياش وسهل، لاختلاف الشهادات. الباقون (بشهادتهم) على التوحيد، لأنه لفظ جنس يقع على القليل والكثير. وقرأ ابن كثير وحده (لأمانتهم) على التوحيد، لأنه اسم جنس. الباقون على الجمع لاختلاف الأمانات. عطف الله تعالى على صفات المؤمنين وزاد في مدحهم، فقال (والذين يصدقون بيوم الدين) أي يؤمنون بأن يوم الجزاء والحساب يوم القيامة حق، ولا يشكون في ذلك، والتصديق الاقرار بأن الخبر صادق، فلما كان المؤمنون قد أقروا ان كل من اخبر بصحة يوم الدين فهو صادق، كانوا مصدقين به، فأما المصدق بيوم الدين تقليدا، فمن الناس من قال: هو ناج. ومنهم من قال: لا يطلق عليه مصدق بيوم الدين، لأنها صفة مدح، وذلك أنه من أخلص هذا المعنى على جهة الطاعة لله تعالى به استحق المدح والثواب، والمقلد عاص بتقليده، لأنه لا يرجع فيه إلى حجة. وقوله (والذين هم من عذاب ربهم مشفقون) فالاشفاق رقة القلب عن تحمل ما يخاف من الامر، فإذا قسا قلب الانسان بطل الاشفاق، وكذلك إذا أمن كحال أهل الجنة إذ قد صاروا إلى غاية الصفة بحصول المعارف الضرورية. وقيل: من أشفق من عذاب الله لم يتعد له حدا ولم يضيع له فرضا. وقوله (إن عذاب ربهم غير مأمون) اخبار منه تعالى بأن عذاب الله لا يوثق بأنه لا يكون، بل المعلوم أنه كائن لا محالة. والمعنى إن عذاب الله غير مأمون على العصاة، يقال: فلان مأمون على النفس والسر والمال، وكل ما يخاف انه لا يكون، ونقيضه غير مأمون. وقوله (والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم) ومعناه إنهم يمنعون فروجهم على كل وجه وسبب إلا على الأزواج وملك الايمان فكأنه قال: لا يبذلون الفروج إلا على الأزواج أو ملك الايمان، فلذلك جاز ان يقول (حافظون إلا على أزواجهم) وهم حافظون لها على الأزواج، فإنما دخلت (إلا) للمعنى الذي قلناه، وقال الزجاج تقديره: إلا من أزواجهم ف? (على) بمعنى (من) أو تحمله على المعنى، وتقديره فإنهم غير ملومين على أزواجهم ويلامون على غير أزواجهم، وقال الفراء: لا يجوز أن تقول: ضربت من القوم إلا زيدا، وأنت تريد إلا أني لم اضرب زيدا. والوجه في الآية أن نحملها على المعنى، وتقديره والذين هم لفروجهم حافظون، فلا يلامون إلا على غير أزواجهم. ومثله أن يقول القائل: أصنع ما شئت إلا على قتل النفس، فإنك غير معذب، فمعناه إلا إنك معذب في قتل النفس. وقوله (فإنهم غير ملومين) أي لا يلامون هؤلاء إذا لم يحفظوا فروجهم من الأزواج، وما ملكت أيمانهم من الإماء على ما أباحه الله لهم. ثم قال (فمن ابتغى وراء ذلك) ومعناه فمن طلب وراء ما أباحه الله له من الفروج إما بعقد الزوجية أو بملك اليمين (فأولئك هم العادون) الذين تعدوا حدود الله وخرجوا عما أباحه الله لهم فالابتغاء الطلب ومعنى (وراء ذلك) ما خرج عن حده من أي جهة كان، وقد يكون وراءه بمعنى خلفه نقيض أمامه إلا أنه - ههنا - الخارج عن حده كخروج ما كان خلفه. والعادي الخارج عن الحق، يقال: عدا فلان فهو عاد إذا اعتدى، وعدا في مشيه يعدو عدوا إذا أسرع فيه، وهو الأصل. والعادي الظالم بالاسراع إلى الظلم. وقوله (والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون) فالأمانة المعاقدة بالطمأنينة على حفظ ما تدعو إليه الحكمة. وقيل: الأمانة معاقدة بالثقة على ما تدعو إليه الحكمة. وقد عظم الله أمر الأمانة بقوله (إنا عرضنا الأمانة على السماوات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الانسان) (1) ومن وحد لفظ الأمانة، فلأنها للجنس تقع على القليل والكثير، ومن جمع أراد اختلاف ضروبها. وقال قوم: المراد بالأمانة الايمان وما أخذه الله على عباده من التصديق بما أوجب عليهم والعمل بما يجب عليهم العمل به، ويدخل في ذلك الايمان وغيره، وقوله (راعون) معناه حافظون. وقوله (والذين هم بشهاداتهم قائمون) مدح للمؤمنين بأنهم يقيمون الشهادة التي يلزمهم إقامتها. ومن وحد لفظ الشهادة، فكما قلناه في الأمانة سواء، والشهادة الاخبار بالشئ على أنه على ما شاهده، وذلك أنه يكون عن مشاهدة للخبر به، وقد يكون عن مشاهدة ما يدعو إليه. وقوله (والذين هم على صلاتهم يحافظون) وصف لهم بأنهم يحافظون على صلاتهم فلا يضيعونها وقيل إنهم يحافظون على مواقيتها فلا يتركونها حتى تفوت ثم قال (أولئك) يعني المؤمنين الذين وصفهم بالصفات المتقدمة (في جنات) أي بساتين يجنها الشجر (مكرمون) أي معظمون مبجلون بما يفعل بهم من الثواب والاكرام وهو الاعظام على الاحسان، والاكرام قد يكون بالاحسان، وقد يكون بكبر الشأن في صفة العالم القادر الغني الذي لا يجوز عليه صفات النقص، فالاعظام بالاحسان وبكبر الشأن في أعلى المراتب لله تعالى لا يستحقه سواه.
1- سورة 33 الأحزاب آية 72.