الآيات 1-10 من سورة المعارج
مكية في قول ابن عباس والضحاك وغيرهما وهي أربع وأربعون آية بلا خلاف.
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله تعالى: ﴿سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ، مِّنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ، تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا، وَنَرَاهُ قَرِيبًا، يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ، وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ، وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾
القراءة:
قرأ أهل المدينة وأهل الشام (سال) بغير همز وهو يحتمل أمرين:
أحدهما: أن يكون من السيل تقول: سال يسيل سيلا فهو سائل، وسايل واد في جهنم، كما قال (أعوذ برب الفلق) والفلق جب في جهنم. واجمعوا على همزة (سائل) لأنه ولو كان من (سال) بغير همز، فالياء تبدل همزة إذا وقعت بعد الألف مثل البائع والسائر من (باع، وسار).
الثاني: بمعنى سأل بالهمزة، لأنها لغة يقولون سلت أسال، وهما يتسألان. قال الشاعر:
سالت هذيل رسول الله فاحشة * ضلت هذيل بما سالت ولم تصب (1)
فهي لغة أخرى، وليست مخففة من الهمزة الباقون بالهمز من السؤال الذي هو الطلب. وقرأ الكسائي وحده (يعرج) بالياء، لان تأنيث الملائكة ليس بحقيقي، الباقون - بالتاء وقرأ ابن كثير - في رواية البزي - وعاصم في رواية البرجمي عن أبي بكر (ولا يسأل) بضم الياء. الباقون بفتح الياء اسندوا السؤال إلى الحميم. حكى الله تعالى انه (سأل سائل بعذاب واقع) قال الفراء: الداعي بالعذاب هو النضر بن كلدة أسر يوم بدر وقتل صبرا، هو وعقبة بن أبي معيط. وقال: تقديره سأل سائل بعذاب (واقع للكافرين) قال ابن: خالويه قال النحويون: إن الباء بمعنى (عن) وتقديره: سأل سائل عن عذاب واقع وانشد:
دع المعمر لا تسأل بمصرعه * واسأل بمصقله البكري ما فعلا (2)
أي لا تسأل عن مصرعه، وهذا الذي سأل العذاب الواقع إنما تجاسر عليه لما كذب بالحق ليوهم أنه ليس فيه ضرر، ولم يعلم أنه لازم له من الله. وقال مجاهد: سؤاله في قوله (اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) (3) وقال الحسن: سأل المشركون، فقالوا: لمن هذا العذاب الذي يذكره محمد؟فجاء جوابهم بأنه (للكافرين ليس له دافع) وقيل: معناه دعا داع بعذاب للكافرين، وذلك الداعي هو النبي صلى الله عليه وآله، واللام في قوله (للكافرين) قيل في معناها قولان:
أحدهما: إنها بمعنى (على) وتقديره سأل سائل بعذاب واقع على الكافرين، ذهب إليه الضحاك.
الثاني: إنها بمعنى (عن) أي ليس له دافع عن الكافرين، وإنما ذكر وعيد الكافر - ههنا - مع ذكره في غير هذا الموضع، لان فيه معنى الجواب لمن سأل العذاب الواقع، فقيل له: ليس لعذاب الكافرين دافع، فاعمل على هذا، وتقدم نظيره وتأخر، والدافع هو الصارف للشئ عن غيره باعتماد يزيله، عنه دفعه عن كذا يدفعه دفعا، فهو دافع وذاك مدفوع. وقوله (من الله ذي المعارج) يعني مصاعد الملائكة. وقيل: معناه ذي الفواضل العالية، فيكون وصفا لله تعالى، وتقديره من الله ذي المعالي التي هي الدرجات التي يعطيها أولياءه من الأنبياء والمؤمنين في الجنة، لأنه يعطيهم درجات رفيعة ومنازل شريفة، والمعارج مواضع العروج، واحدها معرج، عرج يعرج عروجا والعروج الصعود مرتبة بعد مرتبة، ومنه الأعرج لارتفاع احدى رجليه عن الأخرى وقال قتادة: معنى ذي المعارج ذي الفواضل والنعم، لأنها على مراتب. وقال مجاهد: هي معارج السماء. وقيل: هي معالي الدرجات التي يعيها الله تعالى أولياءه في الجنة. وقال الحسن: معناه ذي المراقي إلى السماء. والذي اقتضى ذكر المعارج البيان عن العقاب الذي يجب ان يخافه، على خلاف هذا الجاهل الذي سأل العذاب الواقع على من كفر نعمته. وقوله (تعرج الملائكة) معناه تصعد الملائكة (والروح) أي يصعد الروح أيضا معهم (إليه) والمعنى تعرج الملائكة والروح الذي هو جبرائيل إلى الموضع الذي يعطيهم الله فيه الثواب في الآخرة (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) لعلو درجاتهم، وإنما قال (إليه) لأنه هناك يعطيهم الثواب، كما قال في قصة إبراهيم (اني ذاهب إلى ربي) (4) أي الموضع الذي وعدني ربي، وكذلك الموضع الذي وعدهم الله بالثواب فيه. وقيل: تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره من عروج غيرهم خمسين الف سنة، وذلك من أسفل الأرضين السبع إلى فوق السماوات السبع - ذكره مجاهد - وقوله (يدبر الامر من السماء إلى الأرض ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره الف سنة مما تعدون) (5) فهو لما بين السماء الدنيا والأرض في الصعود والنزول الف سنة: خمسمائة صعودا وخمسمائة نزولا - ذكره مجاهد - أيضا. وقيل: المعنى ان يوم القيامة يفعل فيه من الأمور ما لو فعل في الدنيا كان مقداره خمسين الف سنة. وقال قوم: المعنى إنه من شدته وهو له وعظم العذاب فيه على الكافرين كأنه خمسون الف سنة، كما يقول القائل: ما يومنا إلا شهر أي في شدته، وعلى هذا قول امرء القيس:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجل * بصبح وما الاصباح منك بأمثل
ويا لك من ليل كأن نجومه * بكل مغار الفتل شدت بيذبل (6)
ويؤكد هذا ما روي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه لما نزلت هذه الآية قيل له ما أطول هذا اليوم ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله (والذي بعثني بالحق نبيا إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا) وقال الضحاك وقتادة: هو يوم القيامة. وقال الزجاج: يجوز أن يكون (يوما) من صلة (واقع) فيكون المعنى سأل سائل بعذاب واقع في يوم كان مقداره خمسين الف سنة وذلك العذاب يقع يوم القيامة. وقال الحسن: تعرج الملائكة بأعمال بني آدم في الغمام، كما قال (ويوم تشقق السماء بالغمام) (7) وقال الزجاج: سماه يوما، لان الملائكة تعرجه في مقدار يوم واحد. ثم أمر نبيه فقال (فاصبر صبرا جميلا) أي لا شكوى فيه على ما تقاسيه من أذى قومك، وتكذيبهم إياك فيما تخبر به من أمر الآخرة. قال الزجاج: ذلك قبل أن يؤمر بالقتال. وقوله تعالى (إنهم يرونه بعيدا ونراه قريبا) اخبار من الله تعالى أنه يعلم مجئ يوم القيامة وحلول العقاب بالكفار قريبا، ويراه أي يظنه الكفار بعيدا، لأنهم لا يعتقدون صحته، وكل ما هو آت قريب، وهذا على وجه الانكار عليهم استبعادهم يوم الجزاء، وتوهمهم أنه بعيد. وبين أنه تعالى يراه قريبا بما يعلمه من حصوله، وإنما جاز أن يقال في توهمهم: يرونه لأنهم يتوهمونه، وهم عند أنفسهم يرونه، فجاء على مزاوجة الكلام الذي ينبئ عن المعنى من غير اخلال. وقيل: معنى إنهم يرون العذاب الذي سألوا عنه بعيدا، لأنهم لا يؤمنون به، ونراه قريبا لان كل ما هو آت قريب. ثم وصف الله تعالى يوم القيامة فقال (يوم تكون السماء كالمهل) قال الزجاج: المهل دردي الزيت، وقال مجاهد: هو عكر الزيت. وقال قوم: هو الصفر المذاب. وقال قوم: المهل هو الجاري بغلظة وعكرة على رفق: من أمهله إمهالا، وتمهل تمهلا (وتكون الجبال كالعهن) فالعهن الصوف المنفوش، وذلك أن الجبال تقطع حتى تصير بهذه الصفة، كما أن السماء تشقق بالغمام وتكون كالمهل. وقوله (ولا يسأل حميم حميا) فالحميم القريب النسب إلى صاحبه الذي يحمى لغضبه وأصله القرب قال الشاعر:
احم الله ذلك من لقاء * أحاد آحاد في الشهر الحلال (8)
وقال مجاهد: لا يسأل حميم حميما لشغل كل إنسان بنفسه عن غيره. وقال الحسن: لا يسأله ان يحمل عنه من أوزار ليأسه من ذلك في الآخرة. وقيل (لا يسأل حميم حميما) لأنه (يعرف المجرمون بسيماهم) (9) ومن ضم الياء أراد لا يطالب قريب بأن يحضر قريبه كما يفعل أهل الدنيا بأن يؤخذ الحميم بحميمه والجار بجاره، لأنه لا جور هناك، ويجوز أن يكون المراد لا يسأل حميم عن حميمه ليعرف شأنه من جهته، كما يتعرف خبر الصديق من جهة صديقه، والقريب من قريبه. ثم يحذف الجار ويوصل الفعل إلى المفعول به، ويقوي ذلك قوله (يبصرونهم) أي يبصر الحميم حميمه. والفعل فيه قبل تضعيف العين بصرت به، كما قال حكاية عن السامري (بصرت بما لم يبصروا به) (10).
1- تفسير القرطبي 18 / 280.
2- قائله الأخطل اللسان (صقل).
3- سورة 8 الأنفال آية 32.
4- سورة 37 ص آية 99.
5- سورة 32 ألم السجدة آية 5.
6- ديوانه 152.
7- سورة 25 الفرقان آية 25.
8- مر 8 / 503، 575.
9- سورة 55 الرحمن آية 41.
10- سورة 20 طه آية 96.