الآيات 16-18 من سورة التغابن
قوله تعالى: ﴿فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾
هذا أمر من الله تعالى للمكلفين يأمرهم بأن يتقوه بأن يتركوا معاصيه ويفعلوا طاعاته. فالاتقاء الامتناع من الردى باجتناب ما يدعو إليه الهوى. يقال: اتقاه بالترس إذا امتنع منه بأن جعله حاجزا بينه وبينه. وقوله (ما ستطعتم) معناه اتقوه بحسب طاقتكم، فان الله تعالى لا يكلف نفسا ما لا تطيقه، وإنما يكلفها ماتسعه له، ولا ينافي هذا قوله (اتقوا الله حق تقاته) (1) لان كل واحد من الامرين إنما هو إلزام ترك جميع معاصيه فمن ترك جميع المعاصي فقد اتقى عقاب الله، لان من لم يفعل قبيحا ولا أخل بواجب فلا عقاب عليه إلا أن في أحد الكلامين تبيين أن التكليف لا يلزم العبد إلا فيما يطيق. وهذا يقتضي أن اتقاءه فيما وقع من القبيح ليس بأن لا يكون وقع وإنما هو بالندم عليه مع العزم على ترك معاودته. وكل أمر يأمر الله به فلا بد من أن يكون مشروطا بالاستطاعة، فان كانت الاستطاعة غير باقية على مذهب من يقول بذلك، فالامر بما يفعل في الثالث. وما بعده مشروط بأن يفعل له استطاعة قبل الفعل بوقت وإلا لا يكون مأمورا بالفعل، وإن كانت ثابتة فالامر على صفة الاستطاعة، لأنه لا يصح الشرط بالموجود، لان الشرط يحدث، فليس يخلو من أن يكون على شريطة وقوع القدرة أو على صفة وجود القدرة وقال قتادة قوله تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم) ناسخ لقوله (اتقوا الله حق تقاته) كأنه يذهب إلى أن فيه رخصة لحال التقية وما جرى مجراها مما يعظم فيه المشقة وإن كانت معه القدرة على الحقيقة. وقال غيره: ليس بناسخ، وإنما هو مبين لامكان العمل بهما جميعا. وهو الصحيح، لان تقديره: اتقوا الله حق تقاته فيما استطعتم قوله (واسمعوا) أي اصغوا إلى ما يأمركم الله به (وأطيعوا) فيما آمركم به (وانفقوا) فيما أمركم بالانفاق فيه من الزكاة والانفاق فيه سبيل الله وغير ذلك (خيرا لا نفسكم) انتصب (خيرا) بفعل محذوف يدل عليه (انفقوا) وتقديره وأنفقوا الانفاق خيرا لا نفسكم، ومثله انتهوا خيرا لكم، وهو كقولهم: وذاك أوسع لك لأنك إذا أمرته بشئ فهو مضمن بأن يأتي خيرا له. وقوله (ومن يوق شح نفسه) أي من منع ووقى شح نفسه. والشح منع الواجب في الشرع. وقيل: الشح منع النفع على مخالفة العقل لمشقة البذل، ومثله البخل يقال: شح يشح شحا فهو شحيح وشحاح. وقال ابن مسعود: من الشح أن تعمد إلى مال غيرك فتأكله. وقوله (فأولئك هم المفلحون) معنان إن من وقى شح نفسه وفعل ما أوجبه الله عليه فهو من جملة المنجحين الفائزين بثواب الله. وقوله (إن تقرضوا الله قرضا حسنا) والقرض أخذ قطعة من المال بتمليك الاخذ له على رد مثله وأصله القطع: من قرض الشئ يقرضه قرضا إذا قطع منه قطعة. وذكر القرض في صفة الله تلطفا في الاستدعاء إلى الانفاق في سبيل الله، وهو كالقرض في مثله مع اضعافه ولا يجوز أن يملك الله - عز وجل - لأنه مالك للأشياء من غير تمليك ولان المالك لا يملك ما هو مالكه. وقوله (يضاعفه لكم) أي يضاعف ثوابه لكم بأمثاله. ومن قرأ (يضعفه) بالتشديد، فلان الله تعالى بذل بالواحد عشرة إلى سبعين وسبعمائة (ويغفر لكم) أي ويستر عليكم ذنوبكم ولا يفضحكم بها (إن الله شكور حليم) أي يجازي على الشكر (حليم) لا يعاجل العباد بما يستحقونه من العقاب. وقوله (عالم الغيب والشهادة) أي يعلم السر والعلانية وهو (العزيز) الذي لا يغالب (الحكيم، في جميع افعاله و (الشكور) في صفة الله مجاز ومعناه إنه يعامل المطيع في حسن الجزاء معاملة الشاكر و (الحلم) ترك المعاجلة بالعقوبة لداعي الحكمة. و (الغيب) كون الشئ بحيث لا يشاهده العبد. و (الغائب) نقيض الشاهد وهو (الحكيم) في جميع أفعاله. وقرأ (يضعفه) بالتشديد ابن كثير وابن عامر. الباقون (يضاعفه) وقد مضى تفسيره.
1- سورة 3 آل عمران آية 102.