الآيات 6-11 من سورة المنافقون
قوله تعالى: ﴿سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ، هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ، يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إلى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ، وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ، وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾
القراءة:
قرأ أبو عمرو وحده (وأكون) بالواو، الباقون (واكن) وفى المصاحف بلا واو فقيل لأبي عمرو: لم سقطت من المصاحف؟. فقال كما كتبوا: (كلهن) وقرأ يحيى عن أبي بكر (يعملون) بالياء. الباقون بالتاء. ومن قرأ بالياء فعلى الخبر، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب. لما اخبر الله تعالى عن حال المنافقين، وانه (إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله) حركوا رؤسهم استهزاء بهذا القول، فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وآله (سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم) أي يتساوى الاستغفار لهم وعدم الاستغفار (فلن يغفر الله لهم) لأنهم يبطنون الكفر وإن أظهروا الايمان، وبين انه تعالى (لا يهدي القوم الفاسقين) إلى طريق الجنة، فلهذا يجب ان ييأسوا من المغفرة بالاستغفار. وقال الحسن: اخبر الله تعالى أنهم يموتون على النفاق، فلم يستغفر لهم بعد. وقيل: المعنى لا يحكم الله بهدايتهم، وقد كان النبي صلى الله عليه وآله يستغفر لهم على ظاهر الحال بشرط حصول التوبة وأن يكون باطن المستغفر له مثل ظاهره، فبين بها أن ذلك لا ينفع مع ابطانهم الكفر والنفاق. ثم حكى تعالى عنهم فقال (هم الذين يقولون) يعني بعضهم لبعض لا تنفقوا على من عند رسول الله صلى الله عليه وآله من المؤمنين المحتاجين (حتى ينفضوا) عنه ومعناه حتى يتفرقوا عنه لفقرهم وحاجتهم. والانفضاض التفرق، وفض الكتاب إذا فرقه ونشره، وسميت الفضة فضة لتفرقها في أثمان الأشياء المشتراة. فقال الله تعالى (ولله خزائن السماوات والأرض) بمعنى له مقدوراته في السماوات والأرض، لان فيها كل ما يشاء إخراجه، وله خزائن السماوات والأرض يخرج منهما ما يشاء. وهي داخلة في مقدوراته، والخزانة - بكسر الخاء - موضع يخبأ فيه الأمتعة، وإذا كان لله خزائن السماوات والأرض، فلا يضرك يا محمد ترك انفاقهم بل لا يضرون إلا أنفسهم دون أولياء الله والمؤمنين الذين يسبب الله قوتهم ولو شاء الله تعالى لاغنى المؤمنين، ولكن فعل ما هو أصلح لهم وتعبدهم بالصبر على ذلك لينالوا منزلة الثواب (ولكن المنافقين لا يفقهون) ذلك على الحقيقة لجهلهم بعقاب الله تعالى. ثم اخبر عنهم فقال (يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز) يعنون نفوسهم (منها الأذل) يعنون رسول الله والمؤمنين. وقيل: إن القائل لذلك في غزوة المريسيع، كان عبد الله بن أبي بن سلول، فقال الله تعالى (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين) دون المنافقين والكفار (ولكن المنافقين لا يعلمون) ذلك فيظنون ان العزة لهم، وذلك بجهلهم بصفات الله وما يستحقه أولياؤه وما يعمل بهم. والأعز الأقدر على منع غيره وأصل الصفة المنع فلذلك لم يكن أحد أعز من الله ولا أذل من المنافق. ثم خاطب المؤمنين فقال (يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم) أي لا تشغلكم أموالكم (ولا أولادكم عن ذكر الله) قال قوم: الذكر المأمور به هو ذكر الله بالحمد والشكر والتعظيم بصفاته العليا وأسمائه الحسنى، ويقال: ألهيته عن الامر إذا صرفته عنه بما يمنعه قال امرؤ القيس:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع * فألهيتها عن ذي تمائم محول (1)
وقال قوم: ذكر الله جميع فرائضه ثم قال (ومن يفعل ذلك) أي من شغله ماله أو ولده عن ذكر الله (فأولئك هم الخاسرون) الذين خسروا ثواب الله وحصل لهم عقابه. ثم أمرهم بأن ينفقوا مما رزقهم الله فيما تجب عليهم النفقة فيه من الزكاة والجهاد والحج والكفارات وغير ذلك من الواجبات. وفي ذلك دليل على أن الحرام ليس برزق من الله، لان الله لا يأمر بالمعصية بالانفاق، ولأنه ينهى عن التصرف فيه بلا خلاف (من قبل ان يأتي أحدكم الموت فيقول لولا أخرتني إلى اجل قريب) أي هلا. وقيل: معناه إنه يتمنى أن يرد إلى دار الدنيا، وإنما جاز التمني ب? (لولا)، لان أصلها التقدير، والتمني تقدير الخير للاستمتاع (فاصدق) ومعناه فأتصدق، وانفق في سبيل الله (وأكن من الصالحين) أي من الذين يعملون الأفعال الحسنة. وفي ذلك دليل على أن القدرة قبل الفعل، لأنهم تمنوا ان يؤخروا ليعملوا ما كانوا قادرين عليه متمكنين منه. ودليل على أن الله تعالى لا يخلق الكفر والنفاق فيهم، لأنه لو فعل ذلك كان لا معنى لتمني التأخير والرد بل الواجب أن يطلبوا منه تعالى ان يكف عنهم الكفر ويخلق فيهم الايمان وقدرته بدل الكفر وقدرته. وقوله (فاصدق) انتصب بأنه جواب التمني بالفاء، وكل جواب بالفاء نصب، إلا جواب الجزاء، فإنه رفع على الاستئناف، لان الفاء في الجزاء وصلة إلى الجواب بالجملة من الابتداء والخير. وإنما نصب الجواب بالفاء للايذان بأن الثاني يجب بالأول بدلالة الفاء في الجواب، وليس يحتاج إلى ذلك في الجزاء من قبل ان حرف الجزاء يكفي في الدلالة. ومن قرأ (واكن) فجزم عطف على موضع الفاء، لأنها في موضع جزم. ومن قرأ (وأكون) عطف على لفظ (فأصدق). ثم قال (ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها) يعني الأجل المطلق الذي حكم بأن الحي يموت عنده. والأجل المقيد هو الوقت المحكوم بأن العبد يموت عنده ان لم يقتطع عنه أولم يزد عليه أو لم ينقص منه على ما يعلمه الله من المصلحة. ثم قال (والله خبير) أي عالم (بما يعملون) فمن قرأ بالياء أراد عالم بعملهم على لفظ الغيبة. ومن قرأ بالتاء أراد بعملكم على الخطاب أي قل لهم.
1- ديوانه (السندوبي) 147.