هل الشّيخ الكليني ملتزم بالصحّة؟

قد ينسب الى الكليني القول بتحريف القرآن بدعوى اعتقاده بصدور ما رواه عن المعصومين عليهم السّلام، لكن هذه الدعوى غير تامّه فالنسبة غير صحيحة، إذ أن الكليني لم ينصّ في كتابه على اعتقاده بذلك أصلاً، بل ظاهر كلامه يفيد عدم جزمه به، وإليك نصّ عبارته في المقدّمة حيث قال: فاعلم يا أخي - أرشدك الله - أنّه لا يسع أحداً تمييز شيء مما اختلف الرواية فيه عن العلماء عليهم السّلام برأيه إلاّ على ما أطلقه العالم (عليه السلام) بقوله: أعرضوها على كتاب الله فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فردّوه. وقوله (عليه السلام): دعوا ما وافق القوم، فإنّ الرشد في خلافهم، وقوله (عليه السلام): خذوا بالمجمع عليه، فإن المجمع عليه لا ريب فيه.

ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقلّه، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم (عليه السلام)، وقبول ما وسع من الأمر فيه بقوله (عليه السلام): بأيما أخذتم من باب التسليم وسعكم.

وقد يسّر الله - وله الحمد - تأليف ما سألت، وأرجو أن يكون بحيث توخيت " وأشار بقوله هذا الأخير إلى قوله سابقاً: " وقلت: إنك تحبّ أن يكون عندك كتاب كاف يجمع فيه من جميع فنون علم الدين ".

هذا كلامه - يرحمه الله - وليس فيه ما يفيد ذلك، لأنه لو كان يعتقد بصدور جميع أحاديثه - لما أشار في كلامه إلى القاعدة التي قررها أئمة أهل البيت عليهم السلام لعلاج الأحاديث المتعارضة، وهي عرض الأحاديث على الكتاب والسنّة، كما أشرنا إلى ذلك من قبل.

واستشهاده - رحمه الله - بالرواية القائلة بلزوم الأخذ بالمشهور بين الأصحاب عند التعارض دليل واضح على ذلك، إذ هذا لا يجتمع مع الجزم بصدور الطرفين عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) أو الامام (عليه السلام).

وقوله - رحمه الله - بعد ذلك: " ونحن لا نعرف من جميع ذلك إلاّ أقله، ولا نجد شيئاً أحوط ولا أوسع من ردّ علم ذلك كلّه إلى العالم (عليه السلام) " ظاهر في عدم جزمه بصدور أحاديث كتابه عن المعصوم (عليه السلام).

نعم قد يقال: إنّ أحاديث " الكافي " إن لم تكن قطعية الصدور فلا أقل من صحتها إسناداً، ذلك لأنّ مؤلّفه قد شهد - نتيجة بذله غاية ما وسعه من الجهد في التحري والإحتياط - بصحّة جميع أحاديث كتابه حيث قال في المقدمة: " وقلت: إنك تحب أن يكون عندك كتاب كاف يجمع من جميع فنون علم الدين ما يكتفي به المتعلّم، ويرجع إليه المسترشد ويأخذ منه من يريد علم الدين والعمل به بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام، والسنن القائمة التي عليها السلام العمل وبها يؤدّى فرض الله عزّ وجلّ وسنة نبيه (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ".

فإن ظاهر قوله " بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام " إعتقاده بصحّة ما أورده في كتابه.

ولكنّ هذا - بغض النظر عما قالوا فيه(1) - لا يستلزم وثوق الشيخ الكليني بدلالة كلّ حديث موجود في كتاب حتى ينسيب إليه - بالقطع واليقين - القول بمداليل جميع رواياته، ويؤكد هذا قوله: " ونحن لا نعرف من جميع ذلك " بل ويؤكّده أيضاً ملاحظة بعض أحاديثه.

توضيح ذلك: أنّه - رحمة الله - روى - مثلاً - أحاديث في كتاب الحج من فروعه تفيد أنّ الذبيح كان (إسحاق) لا (إسماعيل)، ومن تلك الأحاديث ما رواه عن أحدهما عليهما السلام: " وحج إبراهيم (عليه السلام) هو وأهله وولده، فمن زعم أن الذبيح هو إسحاق فمن هاهنا كان ذبحه ".

قال الكليني: " وذكر عن أبي بصير أنّه سمع أبا جعفر وأبا عبدالله عليهما السّلام يزعمان أنّه إسحاق. فأمّا زرارة فزعم أنّه إسماعيل "(2).

قال المحدّث المجلسي: " وغرضه - رحمة الله - من هذا الكلام رفع الإستبعاد عن كون إسحاق ذبيحاً، بأنّ إسحاق كان بالشام والذي كان بمكة إسماعيل، فكون إسحاق ذبيحاً مستبعد.

فدفع هذا الإستبعاد بأنّ الخبر يدلّ على أن ابراهيم (عليه السلام) قد حجّ مع أهله وولده، فيمكن أن يكون الأمر بذبح إسحاق في هذا الوقت "(3).

وروى - رحمه الله - في خبر طويل عن أبي جعفر وأبي عبدالله عليهما السّلام: "... قال: فلما قضت مناسكها فرقت أن يكون قد نزل في ابنها شيء، فكأني أنظر إليها مسرعة في الوادي واضعة يدها على رأسها وهي يقول: رب لا تؤاخذ بما عملت بامّ إسماعيل.

قال: فلما جاءت سارة فأخبرت الخبر قامت الى إبنها تنظر فإذا أثر السكين خدوشاً في حلقه، ففزعت واشتكت، وكان بدء مرضها الذي هلكت فيه "(4).

قال المحدّث الفيض الكاشاني هنا: " يستفاد من الخبر أن الذبيح إسحاق، لأن سارة كانت أمّ إسحاق دون إسماعيل، ولقولها: لا تؤاخذني... "(5).

وروى - رحمة الله - في باب المشيئة والإرادة من كتاب التوحيد عن أبي الحسن (عليه السلام) في حديث قوله: " وامر إبراهيم أن يذبح إسحاق ولم يشأ أن يذبحه، ولو شاء لما غلبت مشيئة إبراهيم مشيئة الله تعالى "(6).

قال السيد الطباطبائي في حاشية: " وهو خلاف ما تضافرت عليه أخبار الشيعة ".

فهل هذا الأحاديث صحيحة في رأي الشيخ الكليني؟ وإذا كانت صحيحة - بمعنى الثقة بالصدور - فهل يثق ويعتقد بما دلّت عليه من كون الذبيح إسحاق؟ وإذا كان كذلك فماذا يفعل بالأحاديث التي رواها وهي دالة على كونه إسماعيل؟ وهب أنّه من المتوقّفين في المقام - كما قال المجلسي في نهاية الأمر - فهل يلتئم هذا مع الإلتزام بالصحّة في كلّ الأحاديث؟

ونتيجة البحث في هذه الجهة: عدم تمامية نسبة القول بالتحريف إلى الكليني إستناداً إلى عبارته في صدر " الكافي ".


1- مفاتيح الاصول، معجم رجال الحديث، وغيرهما، وقد جاء في المفاتيح: 332 عن المحدث الجزائري وغيره التصريح بأنّه ليس في كلام الكليني ما يدلّ على حكمه بصحة أحاديث كتابه.

2- الكافي 4: 205 - 206.

3- مرآة العقول 3: 256، بحار الأنوار 12: 135.

4- الكافي 4: 208 - 209.

5- الوافي 1: 548.

6- الكافي 1: 151.