الآيات 1-16

هي مكية بلا خلاف وهي تسع وتسعون آية حجازي وشامي، وسبع وتسعون بصرى، وست وتسعون كوفي، وسبع وتسعون في المدنيين. وروي عن مسروق أنه قال من أراد أن يعلم نبأ الأولين ونبأ الآخرين ونبأ أهل الجنة ونبأ أهل النار ونبأ الدنيا ونبأ الآخرة، فليقرأ الواقعة.

بسم الله الرحمن الرحيم

قوله تعالى: ﴿إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ، لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ، خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ، إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا، وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا، فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا، وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً، فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ، أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ، فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ، ثُلَّةٌ مِّنَ الْأَوَّلِينَ، وَقَلِيلٌ مِّنَ الْآخِرِينَ، عَلَى سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ، مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ﴾

ست عشرة آية كوفي، وسبع عشرة آية بصري وشامي، وثمان عشرة آية حجازي، عد الكل (وأصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) ولم يعده الكوفيون. وعد الحجازيون والكوفيون (موضونة) ولم يعده الباقون. (إذا) متعلقة بمحذوف، وتقديره إذكروا (إذا وقعت الواقعة) قال المبرد: إذا وقعت معناه إذا تقع، وإنما وقع الماضي - ههنا - لان (إذا) للاستقبال ومعناه إذا ظهرت القيامة وحدثت. والوقوع ظهور الشئ بالحدوث، وقع يقع وقوعا فهو واقع، والأنثى واقعة (وإذا) تقع للجزاء (ليس لوقعتها كاذبة) معناه قال الفراء ليس لها مردودة ولا رد. وقيل: ليس لوقعتها قضية كاذبة فيها، لاخبار الله تعالى بها ودلالة العقل عليها، وقال قوم: معناه ليس لها نفس كاذبة في الخبر بها. وقيل: الكاذبة - ههنا - مصدر مثل العاقبة والعافية. وقال الضحاك: القيامة تقع بصيحة عند النفخة الثانية. وقوله (خافضة رافعة) قيل: تخفيض قوما بالمعصية وترفع قوما بالطاعة، لأنها إنما وقعت للمجازاة، فالله تعالى يرفع أهل الثواب ويخفض أهل العقاب، فهو مضاف إلى الواقعة على هذا المعنى. وقال الحسن: تخفض أقواما إلى النار، وترفع أقواما إلى الجنة. والقراء: كلهم على رفع خافضة بتقدير هي خافضة رافعة. وقرأه الترمذي في اختياره بالنصب على الحال، وتقديره إذا وقعت الواقعة تقع خافضة رافعة على الحال. وقوله (إذا رجت الأرض رجا) معناه زلزلت الأرض زلزالا - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - والزلزلة الحركة باضطراب واهتزاز، ومنه قولهم: ارتج السهم عند خروجه عن القوس. وقيل: ترتج الأرض بمعنى أنه ينهدم كل بناء على الأرض. وقوله (وبست الجبال بسا) معناه فتت فتا - في قول ابن عباس ومجاهد وأبي صالح والسدي - وهو كما يبس السويق أي يلت. والبسيس السويق أو الدقيق يلت ويتخذ زادا. وقال لص من غطفان:

لا تخبزا خبزا وبسا بسا * ولا تطيلا مناخ حبسا (1)

وقال الزجاج: يجوز أن يكون معنى بست سيفت وأنشد: وانبس حيات الكيثب الاهيل (2) وقوله " فكانت هباء منبثا " فالهباء غبار كالشعاع في الرقة، وكثيرا ما يخرج مع شعا الشمس من الكوة النافذة، فسبحان الله القادر على أن يجعل الجبال بهذه الصفة. والانبثاث افتراق الاجزاء الكثيرة في الجهات المختلفة، فكل أجزاء أنفرشت بالتفرق في الجهات فهي منبثة، وفى تفرق الجبال على هذه الصفة عبرة ومعجزة لا يقدر عليها إلا الله تعالى. وقوله " وكنتم أزواجا ثلاثة " معناه كنتم أصنافا ثلاثة، كل صنف يشاكل ما هو منه كما يشاكل الزوج الزوجة، ولذلك قيل على هذه المزاوجة: قد زاوج بين الكلامين أي شاكل بينهما. وقوله " فاصحب الميمنة " يعني أصحاب اليمن والبركة والثواب من الله تعالى. وقوله " ما أصحاب الميمنة " بصورة الاستفهام، والمراد تعظيم شأنهم في الخبر عن حالهم " وأصحاب المشئمة " معناه الشؤم والنكد وعقاب الأبد. وقوله " ما أصحاب المشأمة " على تعظيم شأنهم في الشر وسوء الحال. وقيل: أصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، وخبر (أصحاب الميمنة) ما أصحاب الميمنة، كأنه قيل: أي شئ هم؟وفيه تعجيب عن حالهم. وقيل: أصحاب اليمين هم الذين يعطون كتبهم بأيمانهم، وأصحاب الشمال الذين يأخذون كتبهم بشمالهم. وقوله " والسابقون السابقون " معناه الذين سبقوا إلى اتباع الأنبياء فصاروا أئمة الهدى. وقيل: السابقون إلى طاعة الله السابقون إلى رحمته، والسابقون إلى الخير إنما كانوا أفضل لأنهم يقتدى بهم في الخير ويسبقوا إلى أعلى المراتب قبل من يجيئ بعدهم فلهذا تميزوا من التابعين بما لا يلحقونهم به ولو اجتهدوا كل الاجتهاد والسابقون الثاني يصلح أن يكون خبرا عن الأول، كأنه قال: والسابقون الأولون في الخير، ويصلح أن يكون " أولئك المقربون " وقوله " أولئك المقربون " معناه الذين قربوا من جزيل ثواب الله وعظيم كرامته بالامر الأكثر الذي لا يبلغه من دونهم في الفضل. والسابقون إلى الطاعات يقربون إلى رحمة الله في أعلا المراتب وأقربها إلى مجالس كرامته بما يظهر لأهل المعرفة منزلة صاحبه في جلالته ويصل بذلك السرور إلى قلبه، وإنما قال " في جنات النعيم " مع أنه معلوم من صفة المقربين، لئلا يتوهم أن التقريب يخرجهم إلى دار أخرى، وإنما هم مقربون من كرامة الله في الجنة لأنها درجات ومنازل بعضها أرفع من بعض. والفرق بين النعيم والنعمة أن النعمة تقتضي شكر المنعم من أنعم عليه نعمة وانعاما، والنعيم من نعم نعيما كقولك أنتفع انتفاعا. وقوله " ثلة من الأولين " فالثلة الجماعة. وأصله القطعة من قولهم: ثل عرشه إذا قطع ملكه بهدم سريره. والثلة القطعة من الناس، وقال الزجاج: الثل القطع، والثلة كالفرقة والقطعة. وهو خبر ابتداء محذوف، وتقديره: هم ثلة من الأولين، وهم قليل من الآخرين. وقوله " وقليل من الآخرين " إنما قال ذلك لان الذين سبقوا إلى إجابة النبي صلى الله عليه وآله قليل من كثير ممن سبق إلى النبيين. وقوله " على سرر موضونة " فالموضونة المنسوجة المداخلة كصفة الدرع المضاعفة قال الأعشى:

ومن نسج داود موضونة * تساق إلى الحي عيرا فعيرا (3)

ومنه (وضين الناقة) وهي البطان من السيور إذا نسج بعضه على بعض مضاعفا وقيل: موضونة مشبكة بالذهب والجوهر، وقال ابن عباس ومجاهد: موضونة بالذهب وقال عكرمة: مشبكة بالدر، وقال ابن عباس - في رواية أخرى - موضونة معناه مظفورة، والوضين حبل منسوج من سيور. وقوله " متكئين عليها متقابلين " معناه مستندين متحاذيين كل واحد بإزاء الآخر، وذلك أعظم في باب السرور. والتقابل والتحاذي والتواجه واحد. والمعنى إن بعضهم ينظر إلى بعض وينظر إلى وجه بعض لا ينظر في قفاه، من حسن عشرته وتهذيب أخلاقه.

1- الصحاح واللسان (بسس) والقرطبي 17 / 196.

2- الصحاح واللسان (بسس) والقرطبي 17 / 196.

3- ديوانه 71 واللسان (وضمن) ومجاز القرآن 2 / 248.