الآيات 48-50

قول تعالى: ﴿أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّدًا لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ، وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾

القراءة:

قرأ حمزة والكسائي وخلف " أولم تروا " بالتاء، الباقون بالياء. من قرأ بالتاء حمله على الجمع. ومن قرأ بالياء، فعلى ما قبله، من قوله " ان يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم.. أو يأخذهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رأوا ذلك وتيقنوه، فلذلك عدل عن الخطاب. وقرأ أبو عمرو ويعقوب " تتفيئوا ظلاله " بالتاء. الباقون بالياء، فمن أنث فلتأنيث الظلال، لأنه جمع ظل، فكل جميع مخالف الآدميين، فهو مؤنث تقول: هذه الأقطار وهذه المساجد. ومن ذكر، فلان الظلال وإن كان جمعا، فهو على لفظ الواحد مثل (جدار)، لان جمع التكسير يوافق الواحد. يقول الله تعالى لهؤلاء الكفار الذين جحدوا وحدانيته، وكذبوا نبيه، على وجه التنبيه لهم على توحيده " أولم يروا " هؤلاء الكفار " إلى ما خلق الله " من جسم قائم، شجر أو جبل أو غيره، فصير ظلاله فيئا اي تدور عليه الشمس ثم يرجع إلى ما كان قبل زوال الشمس عنه. وقال ابن عباس (يتفيئو) يرجع من موضع إلى موضع ويتميل، يقال منه: فاء الظل يفئ فيئا إذا رجع، وتفيأ يتفيؤ تفيؤا بمعنى واحد. وقوله " عن اليمين والشمائل " معناه في أول النهار وآخره - في قول قتادة والضحاك وابن جريج - يتقلص الفئ عن الجبل من جهة اليمين وينقص بالعشي من جهة الشمال. وإنما قال عن اليمين - على التوحيد - والشمائل - على الجمع - لاحد أمرين:

أحدهما: انه أراد باليمين الايمان، فهو متقابل في المعنى، ويتصرف في اللفظ على الايجاز، كما قال الشاعر:

بفي الشامتين الصخر إن كان هدني * زرية شبلي مخدر في الضراغم (1)

والمعنى بأفواه،

وقال آخر:

الواردون وتيم في ذرى سبأ * قد عض أعناقهم جلد الجواميس (2)

وقوله " سجدا لله وهم داخرون " معناه إنها خاضعة لله ذليلة، بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى واضعها ومدبرها، بما لولاه لبطلت، ولم يكن لها قوام طرفة عين، فهي في ذلك كالساجد، من العباد بفعله، الخاضع بذاته، كأنه من بسط الشمس عليه في أول النهار. ثم قبضها عنه إلى الجهة الأخرى. ثم قبضها أيضا عنه، فتغيرت حاله. والتغيير يقتضي مغيرا غيره ومدبرا دبره. قال الحسن: اما ذلك فيسجد لله، واما أنت فلا تسجد لله ؟! بئس والله ما صنعت. و (الداخر) الخاضع الصاغر، دخر يدخر دخرا ودخورا، إذا ذل وخضع قال ذو الرمة:

فلم يبق إلا داخر في مخيس * ومنجحر في غير أرضك في جحر (3)

ثم أخبر تعالى انه يسجد له جميع " ما في السماوات وما في الأرض " والسجود هو الخضوع بالعبادة أو الدعاء إلى العبادة، فكل شئ من مقدوراته تعالى يسجد بالدعاء إلى العبادة بما فيه من الآية، الذي يقتضي الحاجة إليه تعالى، وكل محق من العباد فهو يسجد بالعبادة. وقوله " من دابة " معنى (من) ههنا هي التي تبين، تبيين الصفة، كأنه قال وما في الأرض الذي هو دابة تدب على الأرض. وقوله " والملائكة " اي وتسجد له الملائكة، وتخضع له بالعبادة، و " هم " يعني الملائكة، غير مستكبرين، ولا طالبين بذلك التكبر بل مذعنين بالحق متذللين، غير آنفين، من الاذعان به. " يخافون ربهم من فوقهم، ويفعلون ما يؤمرون " قيل في معناه قولان:

أحدهما: يخافون عقاب ربهم من فوقهم، لأنه يأتي من فوق.

الثاني: انه لما وصف بأنه عال ومتعال، على معنى قادر، لا قادر أقدر منه، فقيل صفته في أعلى مراتب صفات القادرين، حسن ان يقال " من فوقهم " ليدل على أن هذا المعنى من الاقتدار الذي لا يساويه قادر، وقوله " ويفعلون ما يؤمرون " يعني الملائكة يفعلون ما يأمرهم الله به، ولا يعصونه، كما قال " لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون " (4).


1- قائله جرير: ديوانه (دار بيروت) 252، وتفسير الطبري 14: 73 ومجمع البيان 3: 363 وروايته الديوان: تدعوك تيم وتيم في قرى سبأ * قد عض أعناقهم جلد الجواميس.

2- اللسان (خيس) نسبه إلى الفرزق خطأ.

3- سورة التحريم آية 6.

4- سورة الصافات آية 9.