الآيات 22-25

قوله تعالى: ﴿وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ، وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ، وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ﴾

القراءة:

قرأ حمزة وحده " الريح لواقح " الباقون " الرياح " على الجمع، قال أبو عبيدة لا اعرف لذلك وجها، إلا أن يريد أن الريح تأتي مختلفة من كل وجه، فكانت بمنزلة رياح وحكى الكسائي أرض اغفال، وأرض سباسب. قال المبرد: يجوز ذلك على بعد، ان يجعل الريح جنسا، وليس بجيد، لان الرياح ينفصل بعضها عن بعض، بمعرفة كل واحدة، وليست كذلك الأرض، لأنها بساط واحد. وقال الفراء: هو مثل ثوب اخلاق وانشد:

جاء الشتاء وقميصي أخلاق * شراذم يضحك منه التواق (1)

ومن قراء " الرياح لواقح " احتمل ذلك شيئين:

أحدهما: ان يجعل الريح هي التي تلقح بمرورها على التراب والماء، فيكون فيها اللقاح، فيقال فيها ريح لاقح، كما يقال: ناقة لاقح.

الثاني: ان يصفها باللقح وان كانت تلقح، كما قيل ليل نائم وسركاتم. يقول الله تعالى انه بعث " الرياح الواقع " للسحاب والأشجار تعدادا لنعمه على عباده وامتنانا عليهم، واحدها ريح، وتجمع أيضا أرواحا، لأنها من الواو، قال الشاعر:

مشين كما اهتزت رماح تسفهت * أعاليها مر الرياح النواسم (2)

فاللواقح التي تلقح السحاب، حتى يحمل الماء أي تلقي إليه ما يحمل به الماء يقال: لقحت الناقة إذا حملت، وألقحها الفحل إذا ألقى إليها الماء فحملته، فكذلك الرياح هي كالفحل للسحاب، (ولواقح) في موضع ملاقح. وقيل في علة ذلك قولان:

أحدهما: لأنه في معنى ذات لقاح كقولهم: هم ناصب أي ذو نصب قال النابغة:

كليني لهم يا أميمة ناصب * وليل أقاسيه بطئ الكواكب (3)

اي منصب، وقال نهشل بن حري النهشلي:

ليبك يزيد ضارع لخصومه * ومختبط مما تطيح الطوائح (4)

اي المطاوح.

وقال قتادة وإبراهيم والضحاك: معنى هذا القول: ان الرياح تلقح السحاب الماء. وقال ابن مسعود: إنها لاقحة يحملها الماء، ملقحة بإلقائها إياه إلى السحاب. وقوله " فأنزلنا من السماء ماء " يعني غيثا ومطرا " فأسقيناكموه " اي جعلته سقيا، لأرضكم تشربه، يقال: سقيته، فيما يشربه، تسقيه وأسقيته فيما تشربه ارضه، وقد تجئ أسقيته بمعنى سقيته، كقوله تعالى " نسقيكم مما في بطونه من بين فرت ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين " (5)، وقال ذو الرمة:

وقفت على ربع لمية ناقتي * فمازلت أبكى عنده وأخاطبه

واسقيه حتى كاد مما أبثه * تكلمني أحجاره وملاعبه (6)

اي ادعو له بالسقيا. " وما أنتم له برازقين " اي لستم تقدرون ان ترزقوا أحدا ذلك الماء، لولا تفضل الله عليكم. ثم اخبر تعالى انه هو الذي يحيي الخلق إذا شاء وكان ذلك صلاحا لهم، ويميتهم إذا أراد وكان صلاحهم، وانه هو الذي يرث الخلق، لأنه إذا افنى الخلق ولم يبق أحد كانت الأشياء كلها راجعة إليه ينفرد بالتصرف فيها وكان هو الوارث لجميع الاملاك. وقوله " ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين " قيل في معناه ثلاثة أقوال:

أحدهما: قال مجاهد وقتادة من مضى ومن بقي.

وثانيها: قال الشعبي: أول الخلق وآخره.

وثالثها: قال الحسن: المتقدمين في الخير والمبطئين. وقال الفرا: لما قال النبي صلى الله عليه وسلم إن اله يصلي على الصف الأول، أراد بعض المسلمين ان يبيع داره النائية ليدنو إلى المسجد، فيدرك الصف الأول. فأنزل الله الآية، وأنه يجازي فقراء الناس على نياتهم. ثم اخبر تعالى ان الذي خلقك يا محمد هو الذي يحشرهم بعد إماتتهم، ويبعثهم يوم القيامة، لأنه حكيم في افعاله عالم بما يستحقونه من الثواب والعقاب. (والحشر) جمع الحيوان إلى مكان، يقال: هؤلاء الحشار، لأنهم يجمعون الناس إلى ديوان الخراج. و (الحكيم) العالم بما لا يجوز فعله، لقبحه، أو سقوط الحمد عليه، مع أنه لا يفعله، فعلى هذا يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه حكيم. والحكيم المحكم لأفعاله بمنع الخلل ان يدخل في شئ منها، فعلى هذا لا يوصف تعالى فيما لم يزل بأنه حكيم.


1- تفسير الطبري 14: 13 واللسان " خلق "، " توق ".

2- مر هذا البيت في 2: 372 من هذا الكتاب.

3- ديوانه " دار بيروت " 9 وقد مر في 5: 368، 6: 95.

4- مر هذا البيت في 4: 310.

5- سورة النحل آية 66.

6- ديوانه 213 وتفسير الشوكاني " الفتح القدير " 3: 48 وتفسير الطبري 14: 14 والمحاسن والأضداد للجاحظ 335 ومجمع البيان 3: 333، 359 واللسان والتاج (سقى) وقد مر الثاني في 4: 129.