الآيات 3-9
قوله تعالى: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ، وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ، مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ، وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ، لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذًا مُّنظَرِينَ، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه التهديد للكفار: اترك هؤلاء يأكلوا ما يشتهون، ويستمتعوا في هذه الدنيا بما يريدون ويشغلهم الامل " فسوف يعلمون " وبال ذلك فيما بعد يعني يوم القيامة ووقت الجزاء على الاعمال. ثم اخبر تعالى انه لم يهلك أهل قرية فيما مضى على وجه العقوبة الا وكان لها كتاب معلوم يعنى أجل مكتوب قد علمه الله تعالى لابد ان يبلغونه لما سبق في علمه، ويجوز إلا ولها بالواو وبغير الواو، لأنه جاء بعد التمام، ولو جاء بعد النقصان لم يجز، نحو رجلا هو قائم، ولا يجوز وهو قائم، وكذلك في الظرف في خبر كان، وقال لم تكن أمة فيما مضى تسبق اجلها فتهلك قبل ذلك ولا تتأخر عن اجلها الذي قدر لها بل إذا استوفت أجلها اهلكها الله. ثم قال له: ان هؤلاء الكفار يقولون لك " يا أيها الذي نزل عليه الذكر " يعنون القرآن نزل عليك على قولك، لأنهم لم يكونوا من المعترفين بذلك " انك لمجنون " في ادعائك أنه أنزل عليك الذكر بوحي الله إليك، ولم تكن ممن يقرأ. وقوله " لو ما تأتينا بالملائكة " معناه هلا تأتينا، وهو دعاء إلى الفعل وتحضيض عليه، ومثله قوله " لولا انزل عليه ملك " قال الشاعر:
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم * بني ضوطري لولا الكمي المقنعا (1)
وقد جاء (لوما) في معنى (لولا) التي لها جواب قال ابن مقيل:
لوما الحياء ولوما الدين عبتكما * ببعض ما فيكما اذعبتما عوري (2)
اي لولا الحياء. والمعنى في الآية هلا تأتينا بالملائكة إن كنت صادقا في انك نبي، وقال أبو عبيد عن ابن جريج: فيه تقديم وتأخير يعنى قوله " ولو فتحنا " هو جواب " لو ما تأتينا " والمعنى: فلو فعلنا ذلك بهم أيضا لما آمنوا، وما بينهما كلام مقدم والمراد به التأخير، قال المبرد: هذا الذي ذكره جائز لكن فيه بعد لأنه يلبس بأن يكون فتح عليهم من أنفسهم فعرج بهم. والله أعلم. وكلا الامرين غير ممتنع الا ان العرب تمنع مما فيه لبس. وقوله " ما ننزل الملائكة الا بالحق " قرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم بالنون ونصب الملائكة. الباقون بالتاء ورفع الملائكة إلا أباب كر عن عاصم فإنه ضم التاء على ما لم يسم فاعله. فحجة من قرأ بالنون قوله " ولو اننا نزلنا إليهم الملائكة " (3) وحجة من قرأ " تنزل الملائكة " بفتح التاء قوله " تنزل الملائكة والروح فيها " (4). وحجة من قرأ على ما لم يسم فاعله قوله " ما تنزل الملائكة الا بالحق " وقوله تعالى " ونزل الملائكة تنزيلا " (5). ومعنى قوله " ما ننزل الملائكة الا بالحق " يعنى بالحق الذي لا يلبس معه الباطل طرفه عين. وقال الحسن ومجاهد: معناه إلا بعذاب الاستئصال اي لم يؤمنوا بالآيات، كما كانت حال من قبلهم حين جاءتهم الآيات التي طلبوا، فلم يؤمنوا. ومعنى " وما كانوا إذا منظرين " أنه إن نزل عليهم الملائكة ولم يؤمنوا لم ينظرهم الله، بل كان يعاجلهم العقوبة. وقوله " انا نحن نزلنا الذكر " يعنى القرآن في - قول الحسن والضحاك، وغيرهم - " وانا له لحافظون " قال قتادة: لحافظون من الزيادة والنقصان. ومثله قوله " لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه " (6) وقال الحسن: لحافظون حتى نجزي به يوم القيامة اي لقيام الحجة به على الجماعة من كل من لزمته دعوة النبي صلى الله عليه وسلم. وقال الفراء: الهاء في قوله " وانا له لحافظون " يجوز أن تكون كناية عن النبي، فكأنه قال: انا نحن نزلنا القرآن وانا لمحمد لحافظون، وقال الجبائي: معناه وانا له لحافظون من أن تناله أيدي المشركين، فيسرعون إلى ابطاله، ومنع المؤمنين من الصلاة به. وفي هذه الآية دلالة على حدوث القرآن، لان ما يكون منزلا ومحفوظا لا يكون الا محدثا، لان القديم لا يجوز عليه ذلك ولا يحتاج إلى حفظه.
1- مر تخريجه في 1: 309، 435.
2- شواهد الكشاف 126 ومجاز القرآن 1: 346 وتفسير القرطبي 10: 4 ومجمع البيان 3: 330.
3- سورة الأنعام اية 111.
4- سورة القدر اية 4.
5- سورة الفرقان اية 25.
6- سورة حم السجد 41 (فصلت) آية 42.