الشخصية المتوازنة

ثم إن المشاعر والأخلاق، والحالات النفسية للإنسان لها دور أساس وحساس في تدينه، وقد قلنا: إن السبب الذي دفع فرعون ليدعي الربوبية هو استكباره، وهو حالة أخلاقية، وكذلك إبليس. وبسبب عدم الالتفات إلى هذه الحقيقة فقد يخطئ من يقرأ حياة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وحياة الأئمة (عليهم السلام) في تفسير بعض ما يصدر عنهم (ع)، أو يشكل عليه فهمه، وفهم مراميه، ومقاصده، ومغازيه.

فما أكثر ما نجد في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو الإمام علي أنه قد بكى لهذا الحادث، أو لذاك، الأمر الذي يثير أسئلة ملحّة عن السبب في ذلك، فهل سببه هو أن مشاعره مرهفة، وعواطفه جيّاشة وحساسة إلى هذا الحد؟ كيف ونحن نجد أن هذا النبي يصمد هو ووصيه في وجه جيش بأكمله، يتحرّق ليقطعهما إربًا، إربًا، حتى إن بعض نساء ذلك الجيش، وهي هند أم معاوية، قد استخرجت كبد عمه الحمزة، وحاولت أن تأكل منه.

أمّا ابن عمّه علي الذي كان يبكي لأي مشهد عاطفي يواجهه، فإنه ذلك الرجل القوي، والحازم، والشجاع، الذي يقتل في ليلة الهرير مثلاً خمس مائة وثلاثة وعشرين رجلاً، وهو الذي اقتلع باب خيبر وقتل مرحب اليهودي، و كان قد قتل عمرو بن عبد ود في غزوة الخندق.

أمّا الإمام الحسين الذي بكى في أكثر من مقام في كربلاء فيحارب ثلاثين ألفًا بسبعين رجلاً من أصحابه، ثم يُذبح طفله الرضيع على يديه من الوريد إلى الوريد، فيتلقّى دمه بكفّه ويلقي به نحو السماء، ويقول: هوّن ما نزل بي أنه بعين الله. فكيف نفسّر هذا البكاء، وهذه الرقّة هنا، وهذا الحزم وتلك الشدّة هناك؟

وفي مقام الإجابة على هذا السؤال نقول:

إن البكاء ليس دليل ضعف؛ لأن الله تعالى، من خلال الفطرة والإيمان، والعلم والعمل، قد جعل شخصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم والإمام علي، وكل مؤمن، شخصية متكاملة ومتوازنة. ولا يمكن أن نفسّر بكاء الإمام الحسين في كربلاء في العديد من المناسبات، على أنه بكاء ضعف وانهزام، لأنه قد سجّل في كربلاء أروع صور البطولة والفداء بنفسه وبأهل بيته وأصحابه حتى لم يبق منهم أحد. ثم أقدم على الشهادة مع علمه بسبي نسائه وأطفاله، فلو أن الحياة الدنيا كانت هي هدفه، فقد كانت الخيارات الأخرى مفتوحة أمامه.

إن الحقيقة هي: أن هذا البكاء ليس بكاء ضعف، وإنما هو بكاء القوّة، وبكاء الإنسانية والعاطفة، تتجلّى في سمات الشخصية المتوازنة، التي صنعها الإسلام بالإيمان والعمل الصالح، والمعرفة بالله تعالى، وفي دائرة التربية والرعاية الإلهية لأصفيائه وأوليائه.

فبكاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم والولي، وكل مؤمن، هو دليل كماله، ودليل واجديته للمشاعر الإنسانية التي يريد الله له أن يتحلّى بها، وعلى أن لديه الخشية من الله، وعلى أنه يشعر بآلام الآخرين، لأن الله هو الذي يريد منه ذلك.