الآيات 176-191
قوله تعالى: ﴿كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ، وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ، قَالُوا إِنَّمَا أَنتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، وَمَا أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ، فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ، فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾
القراءة:
قرأ ابن كثير ونافع وابن عامر " أصحاب الأيكة " على أنه اسم المدينة معرفة لا ينصرف. قال أبو علي الفارسي: الأجود أن يكون ذلك على تخفيف الهمزة، مثل لحمر ونصبه يضعف، لأنه يكون نصب حرف الاعراب في موضع الجر، مع لام التعريف، وذلك لا يجوز. وحجة من قرأ بذلك أنه في المصحف بلا ألف. وقالوا هو اسم المدينة بعينها. الباقون " أصحاب الأيكة " بالألف واللام مطلقا مضافا. ومثله الخلاف في ص. وقرأ أبوا حفص " كفا " بفتح السين - ههنا - وفى (سبأ). الباقون باسكانها. حكى الله تعالى أن قوم شعيب، وهم أصحاب الأيكة كذبوا المرسلين في دعائهم إلى خلع الأنداد وإخلاص العبادة لله. والأيكة الغيضة ذات الشجر الملتف. وجمعه الايك، قال النابغة الذبياني:
تجلو بقادمتي حمامة أيكة * بردا أسف لشاته بالإثمد (1)
وقال ابن عباس وابن زيد: أصحاب الايك هم أهل مدين. وإنما قال " إذ قال لهم شعيب " ولم يقل أخوهم كما قال في سائر من تقدم من الأنبياء لأنه لم يكن منهم في النسب، وسائر من تقدم كانوا منهم في النسب، إلا موسى فإنه كان من بني إسرائيل، وكانوا هم قبطا ولم يسمه الله بأنه أخوهم. ثم حكى عن شعيب أنه قال لقومه مثل ما قاله سائر الأنبياء وقد فسرناه. ثم قال لهم " أوفوا الكيل " أي أعطوا الواجب وافيا غير ناقص ويدخل الوفاء في الكيل والذرع والعدد، يقال: أوفى يوفي إيفاء ووفاء. ونهاهم أن يكونوا من المخسرين، فالمخسر المعرض للخسران في رأس المال بالنقصان أخسر يخسر إخسارا إذا جعله يخسر في ماله، وخسر هو يخسر خسرانا وأخسره نقيض أربحه. وأمرهم أن يزنوا بالقسطاس المستقيم، فالوزن وضع شي بإزاء المعيار، لما يظهر منزلته منه في ثقل المقدار إما بالزيادة أو النقصان أو التساوي. والقسطاس العدل في التقويم على المقدار، وهو على وزن (قرطاط) وجمعه قساطيس. وقال الحسن: القسطاس القبان. وقال غيره هو الميزان. وقال قوم هو العدل والسواء. ذكره أبو عبيدة. ثم قال لهم " ولا تبخسوا الناس أشياءهم " أي لا تنقصوها، " ولا تعثوا في الأرض مفسدين " قال قوم: لا تعثوا فيها بالمعاصي. وقال سعيد ابن المسيب: معناه لا تفسدوا فيها بعد اصلاحها. وقال أبو عبيدة: عثا يعثا عثوا وهو أشد الفساد بالخراب. وقال غيره: عثا يعثوا عثوا، وعاث يعيث عيثا. ثم قال لهم " واتقوا الذي خلقكم " وأوجدكم بعد العدم " والجبلة الأولين " فالجبلة الخليقة التي طبع عليها الشئ - بكسر الجيم - وقيل أيضا بضمها ويسقطون الهاء أيضا فيخففون. ومنه قوله " ولقد أضل منكم جبلا كثيرا " (2) وقال أبو ذؤيب:
منايا يقربن الحتوف لأهلها جهارا * ويستمتعن بالانس الجبل (3)
ومعناه اتقوا خليقة الأولين في عبادة غير الله والاشراك معه، فهو عطف على (الذي) فيها، ولا يجوز أن يكون منصوبا ب? " خلقكم " لان الله تعالى لم يخلق كفرهم، ولا ضلالهم، وإن جعلته منصوبا ب? " خلقكم " على أن يكون المعنى اتقوا الله الذي خلقكم وخلق الخلق الأولين، كان جائزا، وأخلصوا العبادة لله. فقالوا في الجواب له " إنما أنت من المسحرين " وقد فسرناه. " وما أنت إلا بشر مثلنا " أي مخلوقا من الناس مثلنا، ولست بملك حتى يكون لك فضل علينا. والبشر هو الانسان، والانسان مشتق من الانس ووزنه (فعليان) والأصل إنسيان غير أنه حذف منه الياء، فلما صغر رد إلى أصله، فقيل: انسيان. والبشر من البشرة الظاهرة. والمثل والشبه واحد. " وإن نظنك لمن الكاذبين " معناه إنا نحسبك كاذبا من جملة الكاذبين. و (إن) هي المخففة من الثقيلة. ولذلك دخلت اللام في الخبر. ثم قالوا له: إن كنت صادقا ومحقا في دعواك " فاسقط علينا كسفا من السماء " أي قطعا - في قول ابن عباس - وهو جمع كسفة، ومثله نمرة وتمر، فقال لهم في الجواب عن ذلك " ربي أعلم بما تعملون " ومعناه إنه إن كان في معلومه أنه: متى بقاكم انكم تتوبون أو يتوب تائب منكم، لم يقتطعكم بالعذاب، وإن كان في معلومه انه لا يفلح واحد منكم، فسيأتيكم عذاب الاستئصال. ثم قال تعالى " فكذبوه " يعني قوم شعيب كذبوا شعيبا، فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة، وهي سحابة رفعت لهم، فلما خرجوا إليها طلبا لبردها من شدة ما أصابهم من الحر مطرت عليهم نارا فأحرقتهم، فهؤلاء أصحاب الظلة، وهم غير أهل مدين - في قول قتادة - قال: أرسل شعيب إلى أمتين. " إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم " وقد فسرناه وإنما كر، " وإن ربك لهو العزيز الرحيم " للبيان عن انه رحيم بخلقه عزيز في انتقامه من الكفار.
1- ديوانه (دار بيروت) 40.
2- سورة 36 يس آية 62.
3- تفسير الطبري 19 / 60.