الآيات 160-175

قوله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ، إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ، إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ، وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ، وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ، قَالُوا لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ، قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُم مِّنَ الْقَالِينَ، رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ، فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ، ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ، وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا فَسَاء مَطَرُ الْمُنذَرِينَ، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ، وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾

حكى الله تعالى عن قوم لوط أنهم كذبوا الرسل الذين بعثهم الله، بترك الاشراك به وإخلاص العبادة له، حين " قال لهم أخوهم لوط ألا تتقون " الله فتجتنبوا معاصيه والاشراك به، وانه قال لهم " اني لكم رسول أمين " وقد فسرناه. واخباره عن نفسه بأنه رسول أمين مدح له، وذلك جائز في الرسول كما يجوز أن يخبر عن نفسه بأنه رسول الله، وإنما جاز أن يخبر بذلك لقيام الدلالة على عصمته من القبائح. وغيره لا يجوز أن يخبر بذلك عن نفسه لجواز الخطأ عليه. واخبر أيضا أنه قال لهم " فاتقوا الله " واجتنبوا معاصيه " وأطيعون " فيما أمركم به وأدعوكم إليه ولست أسألكم على ما اؤديه إليكم وأدعوكم إليه، أجرا، ولا ثوابا، لأنه ليس أجري إلا على الله الذي خلق العالمين، وإنما حكى الله تعالى دعوة الأنبياء بصيغة واحدة، ولفظ واحد إشعارا بأن الحق الذي يأتي به الرسل، ويدعون إليه واحد من اتقاء الله تعالى واجتناب معاصيه واخلاص عبادته، وطاعة رسله، وأن أنبياء الله لا يكونون إلا أمناء لله، وانه لا يجوز على واحد منهم أن يأخذ الاجر على رسالته، لما في ذلك من التنفير عن قبول قولهم، والمصير إليه إلى تصديقهم. ثم قال لهم منكرا عليهم " أتأتون الذكران من العالمين " ؟! يعني من جملة الخلائق " وتذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم " أي وتتركون ما خلقه لكم من الأزواج والنساء، وتذرون استغني في ماضيه ب? (ترك) ولا يستعمل إلا في ضرورة الشعر. والزوجة المرأة التي وقع عليها العقد بالنكاح الصحيح، يقال: زوجة وزوج، قال الله تعالى " أسكن أنت وزوجك الجنة " (1). ثم قال لهم منكرا عليهم " بل أنتم قوم عادون " أي خارجون عن الحق بعيدون عنه. والعادي والظالم والجائر نظائر، والعادي من العدوان. وقد يكون من العدو، وهو الاسراع في السعي، فقال له قومه في جوابه " لئن لم تنته " وترجع عما تقوله " يا لوط " وتدعونا إليه وتنهانا عنه " لتكونن من المخرجين " أي نخرجك من بيننا وعن بلدنا. فقال لهم لوط عند ذلك " إني لعملكم من القالين " يعني من المبغضين: قلاه يقليه إذا أبغضه. ثم دعا لوط ربه فقال " رب نجني وأهلي مما يعملون " أي من عاقبة ما يعملونه، وهو العذاب النازل لهم فأجاب الله دعاءه وقال " فنجيناه وأهله أجمعين " يعني من العذاب الذي وقع بهم. وقد يجوز أن يكون أراد النجاة من نفس عملهم، بأن يفعل لهم من اللطف ما يجتنبون مثل افعالهم، وتكون النجاة من العذاب النازل بهم تبعا لذلك. واستثنى من جملة أهله الذين نجاهم " عجوزا " فإنه أهلكها. وقيل: انها كانت امرأة لوط تدل قومه على أضيافه " في الغابرين " يعني الباقين. فيمن هلك من قوم لوط، لأنه قيل: هلكت هي فيما بعد مع من خرج عن القرية بما أمطر الله عليهم من الحجارة. وقيل أهلكوا بالخسف، وقيل بالائتفاك وهو الانقلاب. ثم أمطر على من كان غائبا منهم عن القرية من السماء حجارة قال الشاعر في الغابر:

فماونا محمد مذ أن غفر * له الاله ما مضى وما غبر (2)

وقال الشاعر:

لا تكسع الشول باغبارها * انك لا تدري من الناتج (3)

فأعبارها بقية لبنها في اخلافها، والغابر الباقي في قلة، كالتراب الذي يذهب بالكنس، ويبقى غباره: غبر يغبر، فهو غابر، وغبر الجص بقيته. وغبر من الغبار تغبيرا، وتغبر تغبرا. والعجوز المرأة التي قد أعجزها الكبر عن أمور كثيرة، ومثله الكبيرة والمسنة. وقوله " ثم دمرنا الآخرين " فالتدمير هو الاهلاك بأهوال الأمور، دمره تدميرا، ومثله تبره تتبيرا، ودمر عليه يدمر دمرا إذا هجم عليه بالمكروه والدامر الهالك. وقوله " وأمطرنا عليهم مطرا " فالأمطار الاتيان بالقطر العام من السماء، وشبه به أمطار الحجارة. والاهلاك بالأمطار عقاب اتي الذكران من العالمين " فساء مطر المنذرين " سماه (سوء) وإن كان حسنا، لأنه كان فيه هلاك القوم ثم قال " إن في ذلك لآية " أي دلالة " وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز الرحيم " وقد فسرناه.

1- سورة 2 البقرة آية 35.

2- مر تخريجه في 6 / 344 و 7 175.

3- تفسير القرطبي 13 / 133.