الآيات 86-93
قوله تعالى: ﴿أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَن شَاء اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ، وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ، مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ، وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنذِرِينَ، وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي وخلف وحفص عن عاصم " وكل أتوه " مقصورة على وزن (فلوه) الباقون " آتوه " ممدودة ومضمومة التاء على وزن ﴿ فالوه ﴾ وقرأ أهل الكوفة ﴿ من فزع ﴾ منونا ﴿ يومئذ ﴾ بفتح الميم. الباقون بغير تنوين على الإضافة إلا ورشا فإنه نصب الميم من ﴿ يومئذ ﴾ مع الإضافة. ووجه هذه القراءة انه جعل (يوم) مع (إذ) كالاسم الواحد، لان إضافة (يوم) إلى (إذ) ليست محضة، لان الحروف لا يضاف إليها، ولا إلى الافعال، وإنما أجازوا في أسماء الزمان الإضافة إلى الحروف وإلى الافعال نحو: هذا يوم ينفع، لما خص وكثر، وقرأ أهل البصرة وابن كثير وأبو بكر إلا يحيى والداجوني عن ابن ذكوان ﴿ يفعلون ﴾ بالياء، الباقون بالتاء. وقرأ أهل المدينة وابن عامر ويعقوب ﴿ عما تعملون ﴾ بالتاء. الباقون بالياء. يقول الله تعالى منبها لخلقه على وجه الاعتبار والتنبيه على النظر بالفكر بجعله تعالى الليل ليسكن فيه خلقه، من الحيوان من الحركات، لان من جعل الشئ لما يصلح له من الانتفاع، فإنما ذلك باختياره دون الطبع، وما يجري مجراه مما ليس مختار، ففي ذلك بطلان قول كل مخالف فيه. وقوله ﴿ والنهار مبصرا ﴾ يحتمل أمرين:
أحدهما: انه جعل النهار ذا إبصار، كما قال ﴿ عيشة راضية ﴾ (1) أي ذات رضا، وكما قال النابغة: كليني لهم يا أمية ناصب (2) أي لهم ذي نصب.
الثاني: لأنه يريك الأشياء كما يراها من يبصرها بالنور الذي تجلى عنها فقيل هو كقول جرير:
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى * ونمت وما ليل المطي بنائم (3)
اي بالذي ينام فيه. ثم قال ﴿ ان في ذلك لآيات ﴾ يعني دلالات واضحات لقوم يصدقون بالله وبتوحيده. وقوله ﴿ ويوم ينفخ في الصور ﴾ منصوب بتقدير: واذكر ﴿ يوم ينفخ في الصور ﴾ أي وذلك يوم ينفخ في الصور، يعني قوله ﴿ وقع القول عليهم بما ظلموا.... يوم ينفخ في الصور ﴾ ويجوز أن يكون على حذف الجواب، وتقديره وتكون البشارة الثانية يوم ينفخ في الصور. وقيل: تقديره ويوم ينفخ في الصور يفزع، لان المعنى إذا نفخ في الصور فزع إلا أنه لما جاء الثاني بالفاء اغنى عن (يفعل) لأنها ترتب. وقال الحسن وقتادة: الصور صور الخلق. وقال مجاهد: هو قرن كالبوق ينفخ فيه. وقيل: النفخة الأولى نفخة الفزع. والثانية نفخة الصعق، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين. وقيل: معنى ﴿ ففزع من في السماوات ومن في الأرض ﴾ من شدة الاسراع والإجابة، يقال: فزعت إليك في كذا إذا أسرعت إلى ندائه في معونتك. وقيل: هو ضد الامن، وهو الأولى. وقيل: وجه النفخ في الصور أنه على تصور ضرب البوق للاجتماع على المسير إلى أرض الجزاء بالحال التي تعرف في دار الدنيا. ومن ذهب إلى أنه جمع صورة قال: المعنى نفخ الأرواح في الأجساد بردها إلى حال الحياة التي كانت عليها. وقوله ﴿ إلا من شاء الله ﴾ روي في الخبر أن الشهداء من جملة الخلق لا يفزعون ذلك اليوم. وقيل: ﴿ إلا من شاء الله ﴾ يعني من الملائكة الذين يثبت الله قلوبهم. وقيل: إسرافيل هو النافخ في الصور بأمر الله تعالى. ثم قال ﴿ وكل أتوه داخرين ﴾ معناه إن جميع الخلق جاؤوا لله داخرين أي صاغرين. فمن قصر، حمله على أنهم اتوه أي جاؤه. ومن مد، حمله على أنهم جايؤه على وزن (فاعلوه). ولفظة (كل) ههنا معرفة، لأنها قطعت عن الإضافة، كما قطع قوله ﴿ من قبل ومن بعد) ﴿؟) إلا أنه لم يبن، لأنه قطع عن متمكن التمكن التام. وليس كذلك ﴿ من قبل ومن بعد ﴾ لأنه كان ظرفا لا يدخله الرفع. وقوله ﴿ وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب ﴾ قال ابن عباس: تحسبها قائمة وهي تسير سيرا حثيثا سريعا قال النابغة الجعدي:
ناز عن مثل الطود يحسب أنهم * وقوف لحاح والركاب تهملج (4)
أي من أجل كثرتهم والتفافهم يحسب أنهم وقوف، فكذلك الجبال. وقوله ﴿ صنع الله الذي أتقن كل شئ ﴾ نصب (صنع الله) بما دل عليه ما تقدم من الكلام من قوله ﴿ تمر مر السحاب ﴾ فكأنه قال: صنع الله صنع الذي أتقن كل شئ إلا أنه اظهر اسم الله في الثاني، لأنه لم يذكر في الأول وإنما دل عليه. والاتقان حسن إيناق وقوله ﴿ انه خبير بما تفعلون ﴾ أي عليم بأفعالهم فيجازيهم بحسبها على الطاعة بالثواب وعلى المعصية بالعقاب. ثم بين كيفية الجزاء، فقال ﴿ من جاء بالحسنة ﴾ يعني بالخصلة الحسنة ﴿ فله خير منها ﴾ أي خير يصيبه منها. وقيل: فله أفضل منها في عظم النفع لان له بقيمتها وبالوعد الذي وعده الله بها كأنه قال: من اتى بالحسنة التي هي الايمان والتوحيد والطاعة لله يوم القيامة يكون آمنا لا يفزع كما يفزع الكفار والفساق. وقيل: هم من فزع الموت في الدنيا آمنون في الآخرة. وقيل: من فزع يوم القيامة في الجنة آمنون. ثم قال ﴿ ومن جاء بالسيئة ﴾ يعني بالمعصية الكبيرة التي هي مثل الكفر والشرك، وما جرى مجراهما. وقال جميع المفسرين: إن السيئة - ههنا - الشرك، فان الله تعالى يكبه على وجهه في النار. ويقال: كبه وأكبه إذا نكسه، ويقال لهم ﴿ هل تجزون ﴾ بهذا العقاب ﴿ إلا ﴾ مكافأة لما كنتم تفعلون وتعملون في دار التكليف من المعاصي. ثم قال لنبيه ﴿ قل ﴾ لهم ﴿ إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة ﴾ يعني مكة - في قول ابن عباس - وقال غيره: منى، أي أمرت بعبادة رب هذه البلدة لم أؤمر بعبادة سواه ﴿ التي حرمها ﴾ وقيل: معنى (حرمها) عظم حرمتها من أن يسفك دم حرام فيها أو يظلم أحد فيها أو يصطاد صيدها أو يخلى خلاؤها وقيل: حرمها حتى أمن الوحش فيها، فلا يعدو الكلب على الغزال، ولا على الطير ولو خرج من الحرم لنفر أشد النفور، فذكر لهذه الآية في الحرم ﴿ وله كل شئ ﴾ أي يملك كل شئ بالتصرف فيه على وجه يريده ويختاره، وليس لاحد منعه منه ﴿ وأمرت ان أكون من المسلمين ﴾ الذين يسلمون بتوحيده واخلاص العبادة له مستسلمين له ﴿ وأمرت أن أتلو القرآن ﴾ عليكم وادعوكم إلى ما فيه ﴿ فمن اهتدى ﴾ إلى الحق والعمل بما فيه ﴿ فإنما يهتدي لنفسه ﴾ لان جزاء ذلك وثوابه يصل إليه دون غيره ﴿ ومن ضل ﴾ عنه وجار ولم يعمل بما فيه ولم يهتد إلى الحق ﴿ فقل ﴾ له يا محمد ﴿ إنما أنا من المنذرين ﴾ الذين يخوفون بعقاب الله من معاصيه، ويدعون إلى طاعته. وفي ذلك دلالة على فساد قول المجبرة الذين يقولون: ان الله يخلق الايمان والهداية والكفر والضلالة. ثم امر نبيه صلى الله عليه وآله بان يقول ﴿ الحمد لله ﴾ اعترافا بنعمه ﴿ سيريكم آياته ﴾ يعني دلالاته التي ليس يمكنكم جحدها. وقال الحسن: معناه يريكم آياته في الآخرة فتعرفون انها على ما قال في الدنيا. وقيل: يركم في الدنيا ما ترون من الآيات في السماء والأرض، فتعرفونها أنها حق. ذكره مجاهد. ثم قال وليس ربك يا محمد ﴿ بغافل عما تعملون ﴾ من قرأ بالياء يعني عما يفعله المشركون. ومن قرأ بالتاء، فعلى تقدير: قل لهم: ليس ربكم بغافل عما تعملونه بل هو عالم بجميع ذلك فيجازيكم عليه، وفى ذلك غاية التهديد.
1- سورة 69 الحاقة آية 21 وسورة 101 الزلزال آية 7.
2- مر تخريجه في 5 / 95، 329.
3- سورة 30 الروم آية 4.
4- تفسير الطبري 20 / 14.