الآيات 76-88

قوله تعالى: ﴿قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ، قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ، وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إلى يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ، قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ، إلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ، قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ، إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ، قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ، لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ، قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ، إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ، وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾

ثلاث عشرة آية في الكوفي واثنتا عشرة اية في ما عداه عد الكوفي " فالحق أقول " ولم يعده الباقون. قرأ عاصم إلا هيبرة وخلف وحمزة " قال فالحق " بالرفع " والحق " بالنصب. الباقون بالنصب فيهما، من رفع تقديره فأنا الحق، ويجوز على تقدير فالحق لأملأن كما تقول: عزيمة صادقة لآتينك، ويجوز على تقدير حذف الخبر، وتقديره: فالحق مني لأملأن. ومن نصب فعلى فالحق لأملأن على القسم، كما تقول: والله لأفعلن، ويجوز في مثله حقا لأملأن، ويكون (والحق أقول) اعتراضا بين الكلامين، ويجوز أن يكون النصب على تقدير اتبعوا الحق، أو أقول الحق. وقال أبو علي: من نصب (الحق) الأول فعلى اضمار (فعل) نحو ما ظهر في قوله " ليحق الحق " (1) وفي قوله " ويحق الله الحق " (2). لما حكى تعالى ما قال لإبليس على وجه الانكار عليه " استكبرت أم كنت من العالين " حكى ما أجاب به إبليس، فإنه قال " انا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين " وقيل إن الله تعالى خلق الملائكة من الريح فسموا بذلك روحانيبن، وخلق آدم من الطين وخلق إبليس من النار، فظن إبليس إن النار أشرف من الطين لما فيها من النور، ولما يكون بها من الانضاح لأكثر ما يحتاج إليه ومن الاحراق الذي يقع به الزجر من العقاب فدخلت عليه الشبهة بهذا، وظن أنه أفضل منه من حيث كان أصله أفضل من أصل آدم، وكيف يجوز أن يفضل آدم عليه السلام عليه. وهذا يدل على أن السجود لآدم كان على وجه التفضيل له على جميع من أمر بالسجود له، وإلا لم يكن يمتنع من ذلك، ولم يعلم إبليس أن الله تعالى إنما أمرهم بالسجود لآدم عبادة له، وإن كان تفضيلا لآدم وإن لهم في ذلك لطفا في تكليفهم فلذلك أمرهم الله بالسجود له، ولو أنعم النظر في ذلك لزالت شبهته. فقال الله تعالى له " فاخرج منها " قال الحسن: يعني من السماء. وقال غيره: من الجنة " فإنك رجيم " أي مرجوم إن رجعت إليها بمثل الشهب التي ترجم به الشياطين. وأصل الرجيم المرجوم، وهو المرمي بالحجر " وإن عليك لعنتي " يا إبليس ابعادي لك من رحمتي " إلى يوم الدين " يعني يوم القيامة الذي هو يوم الجزاء. فقال إبليس عند ذلك يا " رب فانظرني " أي أخرني " إلى يوم يبعثون " أي يوم يحشرون للحساب، وهو يوم القيامة فقال الله تعالى له " فإنك من المنظرين " أي من المؤخرين " إلى يوم الوقت المعلوم " أي اليوم الذي قدر الله فيه إماتتك، فعلى هذا لا يلزم أن يكون إبليس مغرى بالقبائح لعلمه بأنه يبقى، لأنه لا وقت إلا وهو يجوز أن يخترم فيه، ولا يقدر على التوبة فالزجر حاصل له. ومن قال إنه اجابه إلى يوم القيامة يقول: كما أعلمه انه يبقيه إلى يوم يبعثون، اعلمه أيضا انه من أهل النار لا محالة، وانه لا يتوب وصح مع ذلك تكليفه، لأنه يلزمه بحكم العقل أن لا يفعل القبيح من حيث إنه متى فعله زاد عقابه، ويضاعف على ما يستحق له وتخفيف العقاب عن النفس واجب بحكم العقل، كما يجب اسقاط العقاب جملة. ثم حكى تعالى ما قال إبليس فإنه اقسم وقال " فبعزتك " يا الهي " لأغوينهم أجمعين " فالعزة القدرة التي يقهر بها غيره من القادرين، و (الاغواء) التخيب، وإبليس يغوي الخلق بأن يزين لهم القبيح ويرغبهم فيه. والغي خلاف الرشد، وهو الخيبة، يقال: أغواه يغويه إغواء، فهو مغوي إذا دعاه إلى ما فيه الخيبة. ثم استثنى من جملة من يغويهم " عباد الله المخلصين " مع حرصه على اغواء الجميع من حيث أنه يئس منهم من حيث علم أنهم لا يقبلون منه ولا ينقادون لاغوائه، وانه ليس له عليهم سلطان إلا بالاغواء، فإذا علم أن منهم من لا يقبل منه عرف ذلك عنه ليأسه منه. ومن فتح اللام من " المخلصين " أراد إن الله تعالى أخلصهم بما فعل لهم من اللطف الذي امتنعوا عنده من القبائح، ومن كسر اللام أراد انهم أخلصوا عبادتهم لله، لم يشركوا معه غيره. ثم حكى تعالى ما أجاب به - عز وجل - لإبليس، فإنه قال له " فالحق والحق أقول لأملأن " فمن رفع الأول أراد، فأنا الحق أو فالحق لأملأن وأقول الحق. ومن نصب فعلى تقدير. فالحق لأملأن، كما تقول حقا لأملأن، ويكون " والحق أقول " اعتراض بين الكلامين ويكون العامل في (الحق) الثاني قوله " أقول " لأملأن جهنم منك " يا إبليس " وممن تبعك منهم أجمعين " أي من تابعك على دعائك إلى المعاصي. ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله فقال " قل " يا محمد " ما أسألكم عليه من اجر " أي ليس أسألكم أجرا على دعائكم إلى الله " وما أنا من المتكلفين " أي ولست ممن يتعسف في طلب الامر الذي لا يقتضيه العقل، وصفة (متكلف) صفة تجري مجرى الذم، فلذلك قال " وما انا من المتكلفين "، لأنه لا يدعو إلا إلى الامر الجميل الذي يقتضيه الحق. ثم قال " إن هو الا ذكر للعالمين " أي ليس هذا القرآن إلا شرف للعالمين " ولتعلمن نبأه بعد حين " قال الفراء: معناه ولتعلمن خبر القرآن وانه حق أو خبر محمد أنه صادق بعد حين، قال الحسن: عند الموت يأتيك الخبر ألقين. وقال ابن زيد: يوم القيامة، والحين الوقت، وقال عكرمة: هو كقوله " تؤتي أكلها كل حين باذن ربها " (3) وذلك حين تصرم النخلة إلى حين تطلع ستة أشهر وهو مثل ما رواه أصحابنا سواء.

تم المجلد الثامن من التبيان ويليه المجلد التاسع وأوله أول سورة الزمر

طبع في مطابع النعمان في النجف الأشرف في شعبان سنة 1382 ه? وفي كانون الثاني سنة 1963 م


1- سورة 8 الأنفال آية 8.

2- سورة 10 يونس آية 82.

3- سورة 14 إبراهيم 25 آية.