الآيات 45-54

قوله تعالى: ﴿وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ، إِنَّا أَخْلَصْنَاهُم بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ، وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ، وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِّنْ الْأَخْيَارِ، هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ، جَنَّاتِ عَدْنٍ مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الْأَبْوَابُ، مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ، وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ، هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ، إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ﴾

القراءة:

قرأ ابن كثير ﴿ واذكر عبدنا إبراهيم ﴾ على التوحيد. والباقون على الجمع. وقرأ نافع ﴿ بخالصة ذكرى الدار ﴾ مضافا. الباقون بالتنوين. من نون جعل ﴿ ذكرى ﴾ بدلا من (خالصة) وموضعه جر، ويجوز أن يكون نصبا باضمار (أعني) أو يكون معمول خالصة - في قول أبي عبيدة - ويجوز أن يكون رفعا باضمار هي ذكرى، كما قال ﴿ قل أفأنبئكم بشر من ذلكم النار ﴾ (1) اي هي النار، قال أبو علي: (الدار) يحتمل أن يكون الدنيا ويحتمل أن يكون الآخرة اي باخلاصهم ذكرى في الدنيا، فإذا حملت على دار الآخرة، فعلى تقدير إخلاصهم ذكرى الدار. ويكون ذكرهم لها وجل قلوبهم منها ومن حسابها، كما قال ﴿ وهم من الساعة مشفقون ﴾ (2) فالدار عندهم على هذا مفعول به، وليست كالوجه المتقدم. فأما من أضاف فإنه يكون قد أضاف إلى المفعول، كأنهم باخلاصهم ذكرى الدار والخوف منها أخلصوا ذكرها والخوف منها لله تعالى، ويكون على إضافة المصدر إلى الفاعل وتقديره بأن خلصت لهم ذكرى الدار. وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما ﴿ والليسع ﴾ بلامين. الباقون بلام واحدة من قرأ بلامين ادخل على اللام الألف واللام، ثم ادغم إحداهما في الأخرى كما قال الشاعر:

وجدنا الوليد بن اليزيد مباركا * شديدا بأعباء الخلافة كاهله (3)

لأنه قدره تقدير النكرة، وقرأ ﴿ هذا ما يوعدون ﴾ بالياء ابن كثير وأبو عمرو، وفي سورة ق ابن كثير وحده. الباقون بالتاء. من قرأ بالياء فللغيبة، ومن قرأ بالتاء فعلى الخطاب، ومن قرأ (عبدنا) على التوحيد يجوز أن يكون خص به إبراهيم بكونه عبدا له كما خصه بالخلة، ويجوز أن يكون لان لفظه يدل على القليل والكثير. ومن جمع فلانه ذكر جماعة. يقول الله تعالى مخاطبا لنبيه ﴿ واذكر ﴾ يا محمد ﴿ عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب ﴾ فمن قرأ بالجمع فلانه ذكر جماعة. ومن قرأ بالتوحيد فلان لفظة (عبد) لفظ جنس يقع على القليل والكثير، ثم وصفهم فقال ﴿ اولي الأيدي ﴾ يعني اولي القوة على العبادة ﴿ والابصار ﴾ الفقه في الدين - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - وقيل: ﴿ اولي الأيدي ﴾ معناه اولي الأعمال الصالحة، وقيل معناه اولي النعم في الدين، قال الشاعر:

فاعمل لما يعلو فمالك بال? * ذي لا تستطيع من الأمور تدان

ثم اخبر تعالى عن حال هؤلاء الذين وصفهم، فقال ﴿ انا أخلصناهم ﴾ فالاخلاص إخراج كل شائب من الشئ ليس من شكله، فهؤلاء الأبرار قد أخلصهم الله لنعيم الجنان بلطفه في ما لازموه من الاحسان. وقوله ﴿ بخالصة ذكرى الدار ﴾ معناه إنا أخلصنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب بخلة خلصت لهم. ثم قال ﴿ ذكرى الدار ﴾ بدلا من ﴿ خالصة ﴾ اي يذكرون بدار الآخرة ويزهدون في الدنيا، ويجوز أن يكون المعنى إنهم يكثرون ذكر الآخرة والرجوع إلى الله، ومعنى ﴿ أخلصناهم ﴾ أصفيناهم، قال الطبري: معناه أخلصناهم بأفضل ما في الآخرة، هذا على قول من أضاف، وهو قول ابن زيد. ومن نون فالمعنى الخالصة التي أخلصناهم بها هي ذكرى الدار للعمل لها فناهيك بها من خالصة أدت إليها وهي الجنة. ثم قال ﴿ وانهم عندنا لمن المصطفين الأخيار ﴾ والاصطفاء إخراج الصفوة من كل شئ فهم صفوة وغيرهم كدر، فالله تعالى اصطفى هؤلاء الأنبياء بأن اختارهم لنبوته بحسب ما سبق في علمه أنه يكون منهم من القيام بأعباء النبوة والمسارعة إلى الخير والتبرز في الفضل. والذكر الذي يحتاج إليه على وجهين: ذكر ما يجب بالرغبة فيه والدعاء إليه وذكر ما يتقى بالرهبة منه والتحذير منه. وفي ذلك تمام الداعي والصارف اللذين تقتضيهما الحكمة. و ﴿ الأخيار ﴾ جمع خير على وزن (أموات) جمع (ميت) وهو من يفعل الأفعال الكثيرة الحسنة. وقيل هو جمع (خير) ومثله (الأبرار) جمع (بر) وصفوا بالمصدر. وقال مجاهد وقتادة: ﴿ ذكرى الدار ﴾ دار الآخرة وقال ابن زيد: هي دار الجنة. كما قال تعالى ﴿ ولنعم دار المتقين ﴾ (4) قيل: إنهم كانوا يذكرونها للعمل لها ودعاء الناس إليها. وقيل: ذكرى الدار بالثناء الذي ليس لغيرهم من اجل قيامهم بالنبوة. وقيل: الاصطفاء الاختصاص بمدحهم بأنهم هم الصفوة. وقيل: إنما خاطب الله النبي صلى الله عليه وآله أن يذكرهم بصبرهم وفضلهم ليسلك طريقهم ثم قال له صلى الله عليه وآله ﴿ واذكر ﴾ أيضا ﴿ إسماعيل واليسع وذا الكفل ﴾ بمثل ذلك. ثم اخبر عنهم بأنهم كلهم من الأخيار. وقيل ذو الكفل ذو الضعف من الثواب. وقيل كان اسمه ذلك. وقيل: سمي بذلك لأنه تكفل بأمر أنبياء خلصهم الله من القتل به. وقيل تكفل بعمل صالح فسمي به. ثم قال تعالى ﴿ هذا ذكر ﴾ ومعناه إن ما أخبرنا عنهم ذكر أي شرف لهم وذكر جميل وثناء حسن يذكرون به في الدنيا ﴿ وإن للمتقين لحسن مآب ﴾ يعني حسن المرجع في الآخرة، لأنهم يرجعون إلى الجنة. ثم بين ذلك المآب، فقال ﴿ جنات عدن ﴾ وهو في موضع جر على البدل من (مآب) والجنات جمع جنة وهي البستان التي يجنها الشجر ﴿ عدن ﴾ يعني موضع إقامة وخلود ﴿ مفتحة لهم الأبواب ﴾ قيل تنفتح من غير كلفة، قال الحسن تكلم: انفتحي انغلقي، ورفعت (الأبواب) لان تقديره مفتحة لهم أبوابها، فدخلت الألف واللام بدلا من الإضافة، كما يقولون: مررت برجل حسنة عينه قبيح أنفه يريدون قبيح الانف - ذكره الفراء - وقال الزجاج: تقديره مفتحة لهم الأبواب منها، ولو نصب (الأبواب) لجاز، كقول الشاعر:

فما قومي بتغلبة بن سعد * ولا بفزارة الشعث الرقابا

هذا على شبه المفعول. ثم وصف تعالى الذين يحصلون في الجنة فقال ﴿ متكئين فيها على الأرائك ﴾ فالاتكاء الاستناد إلى المساند، ومنه الوكاء لأنه يستمسك به ما في الوعاء ﴿ يدعون فيها بفاكهة كثيرة وشراب ﴾ أي يستدعون الفواكه للاكل والشراب للشرب ﴿ وعندهم قاصرات الطرف اتراب ﴾ يعني قصرن على أزواجهن فمالهن في غيرهم بغية، فالقاصر نقيض الماد، يقال هو قاصر طرفه عن فلان وماد عينه إلى فلان قال امرؤ القيس:

من القاصرات الطرف لودب محول * من الذر فوق الاتب منها لاثرا (5)

والأتراب الاقران على سن واحد ليس فيهن هرمة ولا عجوز. قال الفراء: لا يقال الأتراب إلا في الإناث، ولا يقال في الذكران قال ابن أبي ربيعة:

ابرزوها مثل المهاة تهادى * بين عشر كواعب اتراب (6)

والترب اللذة وهو مأخوذ من اللعب بالتراب. وقيل: اتراب على مقدار سن الأزواج من غير زيادة ولا نقصان. ثم قال تعالى ﴿ هذا ما توعدون ﴾ فمن قرأ بالتاء فعلى انه يقال لهم ويخاطبون بهذا القول. ومن قرأ بالياء فعلى الخبر عن حالهم ﴿ ليوم الحساب ﴾ يعني يوم الجزاء. ثم قال تعالى ﴿ إن هذا ﴾ يعني الذي وصفته من الجنة وما فيها من نواع اللذات ﴿ لرزقنا ماله من نفاد ﴾ يعني من انقطاع لأنه على سبيل الدوام، وهو قول قتادة.


1- سورة 23 الحج آية 72.

2- سورة 21 الأنبياء آية 49.

3- مر في 4 / 208 و 7 / 35.

4- سورة 16 النحل آية 30.

5- ديوانه 91 * (شرح السندوسي) *.

6- ديوانه 59 * (دار بيروت) *.