الآيات 51-60

قوله تعالى: ﴿قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ، يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ، أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ، قَالَ هَلْ أَنتُم مُّطَّلِعُونَ، فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاء الْجَحِيمِ، قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدتَّ لَتُرْدِينِ، وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ، أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ، إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾

لما حكى الله تعالى أن أهل الجنة يقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن اخبارهم وأحوالهم، ذكر أن قائلا منهم يقول " إني كان لي قرين " في دار الدنيا أي صاحب يختص بي إما من الانس - على ما قال ابن عباس - أو من الجن - على ما قال مجاهد - " يقول " لي على وجه الانكار علي والتهجين لفعلي " أإنك لمن المصدقين " بيوم الدين بان الله يبعث الخلق بعد أن يصيروا ترابا وعظاما وانهم يحشرون بعد ذلك ويحاسبون ويجازون إن هذا لبعيد، فألف الاستفهام دخلت - ههنا - على وجه الانكار، وإنما دخلت ألف الاستفهام للانكار من حيث أنه لا جواب لقائله إلا ما يفتضح به، وهؤلاء الكفار غلطوا في هذه الانكار وتوهموا أن من يقول في جواب ذلك نعم يأتي بقبيح من القول. وقوله " أئنا لمدينون " معناه لمجزيون مشتق من قولهم: كما تدين تدان. أي كما تجزي تجزى، والدين الجزاء، والدين الحساب، ومنه الدين، لان جزاءه القضاء، وقال ابن عباس: القرين الذي كان له شريكا من الناس. وقال مجاهد: كان شيطانا. ثم حكى انه يقال لهذا القائل على وجه العرض عليه " هل أنتم مطلعون " أي يؤمرون أن يروا مكان هذا القرين في النار، فيقول: نعم، فيقال له: اطلع في النار، فيطلع في الجحيم فيراه في سوائه أي وسطه - في قول ابن عباس والحسن وقتادة - وإنما قيل للوسط: سواء لاستوائه في مكانه بأن صار بدلا منه، وقد كثر حتى صار بمعنى غير، وروى حسين عن أبي عمرو " مطلعوني فاطلع " بكسر النون وقطع الألف، وهو شاذ، لان الاسم إذا أضيف حذفت منه النون، كقولك: مطلعي، وإنما يجوز في الفعل على حذف احدى النونين، وقد انشد الفراء على شذوذه قول الشاعر:

وما أدرى وظني كل ظن * أسلمني إلى قوم شراح (1)

يريد شراحل، وانشده المبرد (أأسلمني) وانشد الزجاج:

هم القائلون الخير والامر دونه * إذا ما خشوا من محدث الامر معظما (2)

وقيل: ان لأهل الجنة في توبيخ أهل النار لذة وسرورا. وقال الحسن: الجنة في السماء والنار في الأرض، فلذلك صح منهم، الاطلاع. ثم حكى تعالى ما يقوله المؤمن إذا اطلع عليه ورآه في وسط الجحيم فإنه يقول " تالله إن كدت لتردين " ومعنى (تالله) القسم على وجه التعجب وإنما كان كذلك، لان التاء بدل من الواو في القسم على وجه النادر، ولذلك اختصت باسم الله ليدل على المعنى النادر. وقوله " إن كدت لتردين " وهي التي في قوله " إن كل نفس لما عليها حافظ " (3) إلا أنها دخلت في هذا على (فعل) ومعنى " لتردين " لتهلكني كهلاك المتردي من شاهق، ومنه قوله " وما يغني عنه ماله إذا تردى " (4) في النار، وتقول ردي يردى إذا هلك وأرداه غيره إرداء إذا أهلكه ثم يقول " فلو لا نعمة ربي " علي ورحمته لي بأن لطف لي في ترك متابعتك والقبول منك " لكنت " أنا أيضا " من المحضرين " معك في النار فالاحضار الاتيان بالشئ إلى حضرة غيره، وقال الشاعر:

أفي الطوف خفت علي الردى * وكم من رد أهله ولم يرم (5)

أي من هالك، وقوله " أفما نحن بميتين إلا موتتنا الأولى وما نحن بمعذبين " هذا تقريع لهم وتوبيخ، لان هذا الكافر كان يقول كثيرا ذلك في دار الدنيا، ومثله قول الشاعر:

قالت له ويضيق ضنك * لا تكثري لومي أخلي عنك

ومعناه إنها كانت تلومه على الانفاق، فكان يقول لا تكثري لومي فاطلقك فلما انفق عيرته بذلك ووبخته وحكت ما كان يقول عند توبيخها وعذلها. وقال الجبائي: هذا يقوله المؤمن على وجه الاخبار بأنه لا يموت بعد هذا النعيم لكن الموتة الأولى قد مضت، فتلخيص معنى الآية قولان:

أحدهما: انه يقوله المؤمن على وجه السرور بنعم الله في أنه لا يموت ولا يعذب.

الثاني: أن المؤمن يقوله على وجه التوبيخ لقرينة بما كان ينكره. وقوله " إن هذا لهو الفوز العظيم " إخبار منه تعالى بأن هذا الثواب الذي حصل له لهو الفلاح العظيم.

1- تفسير الطبري 23 / 36.

2- تفسير القرطبي 15 / 83.

3- سورة 86 الطارق آية 4.

4- سورة 92 الليل آية 11.

5- الطبري 23 / 36.