منتهى السقوط البشري

ثم إنه تعالى قال: ﴿وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ (الماعون/3) فأشار سبحانه هنا إلى أدنى درجة انحط إليها هذا الإنسان في تعامله مع اليتيم، وذلك لأن هناك نوعان من الناس:

الأول: ذلك الإنسان الذي يرفض إطعام المسكين، لسبب أو لآخر ? مثل حاجته هو إلى طعامه، أو إلى ماله، أو لشحّ نفسه به. ولكننا نتوقع منه أن يعمل على تهيئة من يطعم هذا اليتيم، انطلاقًا من شعوره الإنساني وإحساسه بآلامه وتشجيعًا منه لآماله.

الثاني: الإنسان الذي لا يحض على طعام المسكين حتى أصبح ذلك ظاهرة في حياته، وسلوكًا طبيعيًا له، مما يعني أنه فاقد للعاطفة الطيبة، خصوصًا وأن الذي يحتاج إلى هذا الطعام ليس مجرد فقير عادي، بل هو فقير إلى درجة أن فقره أسكنه عن الحركة، وأقعده عن طلب الرزق، ومنعه من السعي والظهور، الأمر الذي يعني أن ما يحتاجه هو مما تقوم به حياته، وليس هو لمجرد التوسعة، والخروج من حالة الضيق العادي.

﴿الْمِسْكِينِ﴾:

ويلاحظ: أن كلمة مسكين لا تخلو من الإلماح إلى التكثير أيضًا؛ لأنها جاءت على طريقة صيغ المبالغة؛ فهي على وزن كلمة "منطيق"، بل قد يدّعى أنها مثل كلمة: " شرّيب، وسكّيت، وضلِّيل". وقد قال ابن قتيبة: "ما كان على (فِعِّيل) فهو مكسور الأول، لا يفتح منه شيء، وهو لمن دام منه الفعل نحو رجل (سكّير)." إلى أن قال: "ولا يقال ذلك لمن فعل الشيء مرّة أو مرتين، حتى يكثر منه، ويكون له عادة".

وخلاصة الأمر:

إنه إذا كان التعبير بكلمة "مسكين" يشير إلى أن فقر هذا الإنسان قد ظهر وبدا عليه في سماته، وفي حركته ومظهره؛ فعدم الحض على طعامه يظهر مدى قسوة قلب الذي ليس فقط لا يطعمه، بل هو لا يشجّع على إطعامه ولا على إرجاع طعامه إليه، ولم يتحرك قلبه تجاه ما يراه من حاجته وبؤسه.

فاتضح: أن هذا الأمر الذي قد لا يلفت نظر أحد، قد أرشدنا إلى حقيقة مهمة تكمن في شخصية الإنسان، وهي أنه يفقد شيئًا مهمًا جدًا وأساسيًا في الحياة. حتى وإن لم يفعل شيئًا مؤذيًا للمسكين، حيث إنه لم يضربه، ولم يشتمه، ولم يمنع أحدًا من إطعامه، ولم يبادر إلى دعِّه ودفعه بقسوة، نعم. رغم ذلك فقد تحدّث القرآن عن أن هذا الموقف اللامبالي هو أيضًا من مظاهر التكذيب بالدين، تمامًا كما هو الحال في من يدعّ اليتيم.