2 - لا كتاب عند الشيعة صحيح كلّه

الثاني: إنّه لا يوجد كتاب واحد من بين كتب الشيعة وصفت أحاديثه جميعها بالصحّة، وقوبلت بالتسليم والقبول لدى الفقهاء والمحدّثين، ولذا نجد أنّ أحاديث الشيعة - وحتى الواردة في الكتب الأربعة(1) التي عليها المدار في استنباط الأحكام الشرعية - قد تعرّضت لنقد علماء الرجال وأئمّة الجرح والتعديل، فكل خبر أجتمعت فيه شرائط الصحّة، وتوفّرت فيه مقتضيات القبول اخذ به، وكلّ خبر لم يكن بتلك المثابة، ردّ، أياً كان مخرجه وراويه والكتاب الذي أخرج فيه(2).

ولنأخذ مثالاً على ذلك كتاب (الكافي)(3)، الذي هو أهمّ الكتب الأربعة وأوثقها لدى هذه الطائفة، وهو الذي أثنى عليه العلماء والمحدّثون والفقهاء وتلقّوه بيد الإحترام والتعظيم، فإنّ العلماء وزّعوا أحاديثه وهي (16199) حديثاً على أساس تصنيف الأحاديث إلى الأقسام الخمسة(4).

وقد لوحظ أنّ أكثرها عدداً الأحاديث الضعيفة(5)، ويمكن الإطّلاع على ذلك بمراجعة كتاب (مرآة العقول في شرح الكافي)(6) للشيخ المجلسي، فإنّه شرح الكتاب المذكور على أساس النظر في أسانيده، فعيّن الصحيح منها والضعيف والموثّق والمرسل، على ضوء القواعد المقرّرة لتمييز الأحاديث الصحيحة من غيرها.

وهذا كلّه دليل على أنّ أحاديث " الكتب الأربعة " غير قطعيّة الصدور عن النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) والأئمة عليهم السّلام عند الإمامية، إلاّ أنّه يبدو أنّ هناك جماعة قليلة ذهبوا إلى القول بذلك، ولكنه قول مردود:

قال المحقّق الأكبر الشيخ الأنصاري: " ذهب شرذمة من متأخري الأخباريين - فيما نسب إليها - إلى كونها قطعيّة الصدور ".

قال: " وهذا قول لا فائدة في بيانه والجواب عنه إلاّ التحرّز عن حصول هذا الوهم لغيرهم كما حصل لهم، وإلاّ فمدّعي القطع لا يلزم بذكر ضعف مبنى قطعه، وقد كتبنا في سالف الزمان في ردّ هذا القول رسالة تعرّضنا فيها لجميع ما ذكروه وبيان ضعفها بحسب ما أدّى إليه فهمي القاصر "(7).

وقال شيخنا الجدّ المامقاني: " وما زعمه بعضهم من كون أخبارها - أي الكتب الأربعة - كلّها مقطوعة الصدور، إستناداً إلى شهادات(8) سطّرها في مقدمة الحدائق، لا وجه له كما اوضحناه في محلّه "(9).

وتبعهما السيد الخوئي حيث قال: " ذهب جماعة من المحدّثين إلى أنّ روايات الكتب الأربعة قطعيّة الصدور، وهذا القول باطل من أصله، إذ كيف يمكن دعوى القطع لصدور رواية رواها واحد عن واحد، لا سيمّا وأنّ في رواة الكتب الأربعة من هو معروف بالكذب والوضع على ما ستقف عليه قريباً وفي موارده إن شاء الله تعالى "(10).

ومن قبلهم قال السيد المجاهد الطباطبائي بعد كلام طويل: " وبالجملة: دعوى قطعيّة ما في الأربعة ممّا لا ريب في فسادها "(11).

فهذه الكلمات وغيرها صريحة في عدم قطعيّة صدور أحاديث الكتب الأربعة.

وأمّا بالنسبة إلى تاريخ تصنيف الأحاديث، فقد حكى المحدّث البحراني عن جماعة: إنّ أوّل من نوّع الأخبار هو (العلاّمة) أو شيخه (ابن طاووس) - رحمهما الله - وأمّا المتقدّمون فكانوا يأخذون بجميع الأخبار المدوّنة في (الكتب الأربعة) وغيرها من (الاصول) معتقدين بصحتها أجمع. وهذا ممّا دعا إلى الخلاف بين الأخباريين والمجتهدين(12).

وتقدم عن المحدّث النوري تعبيره عن هذا التنويع ب- " النّمط الجديد ".

فهذان المحدّثان وغيرهما يزعمان أنّ التنويع يختص بالمتأخرين المجتهدين، وأنّ قدماء الأصحاب كانوا يعتقدون بصحّة أحاديث " الاصول الأربعمائة " التي منها الّفت " الكتب الأربعة ".

ولكنّ الظاهر أنّ هذه الدعوى لا أساس لها من الصحّة، فقد أجاب عنها شيخنا الجدّ - رحمة الله تعالى - بقوله: " وقد زعم القاصرين من الأخباريين اختصاص هذا الإصطلاح بالمتأخرين الذين أوّلهم (العلاّمة) رحمة الله على ما حكاه جمع منهم الشيخ البهائي رحمة الله في (مشرق الشمسين) أو (ابن طاووس) كما حكاه بعضهم، فأطالوا التشنيع عليهم بأنّه اجتهاد منهم وبدعة.

ولكنّ الخبير المتدبّر يرى أنّ ذلك جهل منهم وعناد، لوجود أصل الإصلاح عند القدماء، ألا ترى إلى قولهم: لفلان كتاب صحيح، وقولهم: أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عن فلان، وقول الصدوق رحمة الله: كلّ ما صحّحه شيخي فهو عندي صحيح، وقولهم: فلان ضعيف الحديث، ونحو ذلك.

فالصادر من المتأخرين تغيير الإصطلاح إلى ما هو أضبط وأنفع، تسهيلاً للضبط وتمييزاً لما المعتبر منها عن غيره "(13).

وأمّا قول المحدّث البحراني: " فأمّا المتقدّمون... " ففيه: أنّ الأمر ليس كذلك، بل ربّما طعن الشيخ المفيد والشيخ الصدوق في بعض أحاديث الشيخ الكيني، وطعن الشيخ الطوسي في بعض أحاديث الصدوق والكليني(14).

فإذا كان الأمر كذلك فيما بينهم - وهم أصحاب الكتب الأربعة - فكيف بالمتأخرين منهم المجدّدين لفكرة تنويع الأحاديث، والنظر في الأسانيد الواردة في كافة الكتب.

وهذا بحث واسع متشعّب الأطراف نكتفي بهذا المقدار بمناسبة المقام، فمن أراد التوسّع فيه فليراجع مظانّه من كتب الدراية والرجال.

والخلاصة: إنّ المحقّقين من الإمامية يبنون على أنّ وجود أيّ حديث في أيّ كتاب من كتب الشيعة لا يبرر بمجرّده الأخذ به والإعتقاد بصحّة مدلوله، إذ ليس عندهم كتاب التزم فيه مؤلّفه بالصحّة أبداً، بحيث يستغني بذلك الباحث عن النظر في أسانيد أحاديثه والفحص عن رجاله وما قيل فيهم من الجرح والتعديل.

وهذا بخلاف أهل السنّة، فإنّ لهم كتباً سمّوها بـ " الصحاح " وأهمها عند أكثرهم (صحيح البخاري) اعتقد جمهورهم بصحّة ما اخرج فيها، وقالوا في كتبهم الرجالية: من خرّج في الصحيح فقد جاز القنطرة، كما التزم أصحابها وبعض أصحاب " المسانيد " في كتبهم بالصحّة.


1- هي: الكافي للكليني، من لا يحضره الفقيه للصدوق، التهذيب والاستبصار للطوسي.

2- مقباس الهداية في علم الرواية للمامقاني ط مع تنقيح المقال، ثم نشره بتحقيقه حفيده العلامة الشيخ محمد رضا.

3- يقع في ثمانية أجزاء: إثنان منها في الاصول، وخمسة منها في الفروع والثامن الروضة.

4- وهي على أقسام، ويراجع للوقوف على تعريف كل قسم واقسامه كتب الدراية لدى الشيعة ككتاب الدراية للشيخ الشهيد الثاني، والوجيزة للشيخ البهائي وشروح الوجيزة، ومقباس الهداية لشيخنا الجدّ المامقاني وغيرها.

5- المستدرك للمحدّث النوري 3: 541 الطبعة القديمة، ونشرته مؤسّسة آل البيت لإحياء التراث في طبعة محقّقة.

6- وكذا فعل المحدّث الجزائري في شرح التهذيب، قال المحدّث النوري: « والعجب من العلامة المجلسي وتلميذه المحدث الجزائري مع عدم اعتمادهما بهذا النمط الجديد خصوصاً الثاني، وشدّة إنكاره على من أخذه بنيا في شرحيهما على التهذيب والأول في شرحه على الكافي أيضاً على ذلك فصنعا بهما ما أشار إليه في الرواشح، ولم أجد محملاً صحيحاً لما فعلا » المستدرك 3: 771.

7- الرسائل: 67.

8- أجاب عنها السيد حسن الصدر في شرح الوجيزة في علم الدراية.

9- مقباس الهداية المطبوع في آخر تنقيح المقال في علم الرجال.

10- معجم رجال الحديث 1: 36.

11- مفاتيح الاصول للسيد محمد الطباطبائي الحائري: 9.

12- الحدائق الناضرة 1: 14.

13- مقباس الهداية في علم الدراية: 32.

14- راجع: مفاتيح الاصول، وأوثق الوسائل، وقد بحث صاحب هذا الكتاب الموضوع من جميع جوانبه من ص 122 فراجعه فإنّه جدير بالملاحظة. هذا، وذهب السيد الخوئي في ( رجاله ) إلى أنّ أخبار الكتب الأربعة ليست قطعية الصدور، بل ليس صحيحاً، وأثبت أنّ المتقدّمين من المحدّثين أيضاً كانوا يعتقدون نفس هذا الإعتقاد بالنسبة إلى ( الاصول ) و ( الكتب الأربعة )، واستنتج من جميع ذلك: أنّ أخبار هذه الكتب لابدّ من النظر في سند كل منها، فإن توفّرت فيه شروط الحجّية اخذ به وإلاّ فلا، كما الشيخ المجلسي المحدّث الجزائري بالنسبة إلى ( الكافي ) و ( التهذيب ).