الشبهة الثانية: اختلاف مصحف علي (عليه السلام) مع المصحف الموجود

وتفيد طائفة من أحاديث الشيعة(1) أنّ علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) اعتزل الناس بعد وفاة رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) ليجمع القرآن العظيم، وفي حديث رواه الشيخ بن إبراهيم القمي - رحمة الله تعالى - في تفسيره: إنّ عمله ذاك كان بأمر من النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، وقال: لا أرتدي حتى أجمعه، حتى روي أنّه (عليه السلام) لم يرتد رداءه إلاّ للصلاة إلى أن فرغ من هذه المهمّة.

وأضافت تلك الأحاديث - ومنها الحديث الثالث من الأحاديث المتقدّمة وحديثان رواهما الشيخ أبو منصور الطبرسي في " الإحتجاج " - إنّه (عليه السلام) حمل ذاك المصحف الذي جمعه إلى الناس، وأخبرهم بأنّه الذي نزل من عندالله سبحانه على النبي الكريم (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولكنّ الناس ردوّه وأعرضوا عنه زاعمين أنّهم في غنىً عنه، فعند ذلك قال الإمام (عليه السلام): إنّكم لن تروه بعد اليوم.

والذي يستنتجه الناظر في هذه الأحاديث مخالفة ما جمعه الإمام (عليه السلام) مع القرآن الموجود، ولو لم يكن بعض ما فيه مخالفاً لبعض ذلك المصحف لما حمله إليهم، ولما دعاهم إلى تلاوته والأخذ وجعله القرآن المتّبع لدى جميع المسلمين.

ومن هنا تأتي الشبهة في هذا المصحف الذي بين أيدينا، إذ لا يشك مسلم في أعلميّة الإمام (عليه السلام) بالكتاب ودرايته بحقائقه وأسراره ودقائقه.

ولكنّ هذه الشبهة تندفع - بعد التسليم بصحّة هذه الأخبار - بما ذكره جماعة من أنّ القرآن الكريم كان مجموعاً على عهد النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم)، ولم يكن في عهده مبثوثاً متفرقاً هنا وهناك حتى يحتاج إلى جمع، ويؤيد ذلك أنّ غاية ما تدلّ عليه هذه الأحاديث هو الخالفة بين المصحفين إجمالاً، وهي كما يحتمل أن تكون بالزيادة والنقصان في أصل الآيات والسور المنزلة، كذلك يحتمل أن تكون:

أولاّ: بالإختلاف في الترتيب والتأليف، كما يدلّ عليه الحديث في (الإرشاد) و (روضة الواعظين) وذهب إليه جماعة، فقد قال السيد الطباطبائي: " إنّ جمعه (عليه السلام) القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعية، إلاّ أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزل نجوماً، بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

ولو كان كذلك لعارضهم بالإحتجاج ودافع فيه ولم يقنع بمجرد إعراضهم عمّا جمعه واستغنائهم عنه، كما روي عنه (عليه السلام) في موارد شتى، ولم ينقل عنه (عليه السلام) فيما روي من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك، وجبّهم على إسقاطها أو تحريفها "(2).

وثانياً: بالإختلاف بالزيادة والنقصان من جهة الأحاديث القدسيّة، بأن يكون مصحف الإمام (عليه السلام) مشتملاً عليها، ومصحفهم خالياً عنها، كما ذهب إليه شيخ المحدّثين الصدوق حيث قال: " وقد نزل من الوحي الذي ليس بقرآن ما لو جمع إلى القرآن لكان مبلغة مقدار سبع عشرة ألف آية، وذلك قول جبرئيل (عليه السلام) للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): إنّ الله تعالى يقول لك: يا محمّد دار خلقي: ومثل قوله: عش ما شئت فإنّك ميت، وأحبب ما شئت فإنّك مفارقه، واعمل ما شئت فإنّك ملاقيه، وشرف المؤمن صلاته بالليل وعزّه كفّ الأذى عن الناس ".

قال: " ومثل هذا كثير، كلّه وحي وليس بقرآن ولو كان قرآناً لكان مقروناً به وموصولاً إليه غير مفصول عنه، كما كان أمير المؤمنين (عليه السلام) جمعه، فلما جاء به قال: هذا كتاب ربّكم كما أنزل على نبيّكم، لم يزد فيه حرف ولا ينقص منه حرف، قالوا: لا حاجة لنا فيه، عندنا مثل الذي عندك، فانصرف وهو يقول: فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمناً قليلاً، فبئس ما يشترون "(3).

وثالثاً: بالإختلاف بالزيادة والنقصان من جهة التأويل والتفسير، بأن يكون مصحفه (عليه السلام) مشتملاً على تأويل الآيات وتفسيرها، والمصحف الموجود خال عن ذلك، كما ذهب إلى ذلك جماعة.

قال الشيخ المفيد: " ولكنّ حذف ما كان مثبتاً في مصحف أمير المؤمنين (عليه السلام) من تأويله وتفسير معانيه على حقيقة تنزيله، وذلك كان ثابتاً منزلاً، وإن لم يكن من جملة كلام الله تعالى الذي هو القرآن المعجز، وقد يسمّى تأويل القرآن قرآناً، قال الله تعالى: (ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربّ زدني علماً) فسمّى تأويل القرآن قرآناً، وهذا ما ليس فيه بين أهل التفسير اختلاف، وعندي أنّ هذا القول أشبه "(4).

وقال المحدّث الكاشاني: " ولا يبعد أيضاً أن يقال: إن بعض المحذوفات كان من قبيل التفسير والبيان، ولم يكن من أجزاء القرآن، فيكون التبديل من حيث المعنى، أي: حرّفوه وغيّروه في تفسيره وتأويله، أعني: حملوه على خلاف ما هو به، فمعنى قولهم عليهم السّلام: (كذا أنزلت) أنّ المراد به ذلك، لا أنّها نزلت مع هذه الزيادة في لفظها، فحذف منها ذلك اللفظ.

وممّا يدلّ على هذا ما رواه في (الكافي) بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام) أنّه كتب في رسالته إلى سعد الخير: وكان من نبذهم الكتاب أن أقاموا حروفه وحرّفوا حدوده، فهم يروونه ولا يرعونه، والجهال يعجبهم حفظهم للرواية والعلماء يحزنهم تركهم للرعاية... الحديث.

وما رواه العامّة: إنّ علياً (عليه السلام) كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ. ومعلوم أنّ الحكم بالنسخ لا يكون إلاّ من قبيل التفسير والبيان، ولا يكون جزءاً من القرآن، فيحتمل أن يكون بعض المحذوفات أيضاً كذلك "(5).

وإلى ذلك ذهب السيد الخوئي(6).

وقال الزنجاني: " ويظهر من بعض الروايات إنّ علياً أمير المؤمنين (عليه السلام) كتب القرآن وقدّم المنسوخ والناسخ. خرّج إبن أشته في المصاحف عن ابن سيرين: إنّ علياً (عليه السلام) كتب في مصحفه الناسخ والمنسوخ. وإن ابن سيرين قال: تطلبت ذلك وكتبت فيه إلى المدينة فلم أقدر عليه. وقال ابن حجر: قد ورد عن علي (عليه السلام) أنّه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وخرّجه ابن أبي داود.

وفي شرح الكافي عن كتاب سليم بن قيس الهلالي: إنّ علياً (عليه السلام) بعد وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم) لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه فلم يخرج من بيته حتى جمعه كلّه، وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ والمحكم والمتشابه.

ذكر الشيخ الإمام محمد بن محمد بن النعمان المفيد في كتاب الإرشاد والرسالة السروية: إنّ علياً قدّم في مصحفه المنسوخ على الناسخ، وكتب في تأويل بعض الآيات وتفسيرها بالتفصيل.

يقول الشهرستاني في مقدّمة تفسيره: كان الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - متفقين على إنّ علم القرآن مخصوص لأهل البيت عليهم السّلام إذا كانوا يسألون علي بن أبي طالب هل خصصتم أهل البيت دوننا بشيء سوى القرآن؟ فاستثناء القرآن بالتخصيص دليل على إجماعهم بأنّ القرآن وعلمه وتنزيله وتأويله مخصوص بهم "(7).

وقال بعض الأعلام من أهل السنّة: إنّ قرآن على كان يشتمل على علم كثير(8).

بل عن الإمام (عليه السلام) نفسه أنّه قال للزنديق: انّه أحضر الكتاب كملاً مشتملاً على التنزيل والتأويل، والمحكم والمتشابه، والناسخ والمنسوخ، لم يسقط منه حرف "(9).

ويؤيّده: ما اشتهر من أن الذي جاءهم به كان مشتملاً على جميع ما يحتاج إليه الناس حتى أرش الخدش(10).


1- وكذا روايات أهل السنّة، لاحظ: أنساب الأشراف 1: 587، طبقات ابن سعد 2: 338، الإتقان في علوم القرآن 1: 204، كنز العمال 2: 588 وغيرها.

2- الميزان 12: 119.

3- الاعتقادات: 93.

4- أوائل المقالات في المذاهب المختارات، وكذا قال في غيره كما سيأتي عن تاريخ القرآن.

5- الصافي 1: 46، علم اليقين: 130.

6- البيان: 197.

7- تاريخ القرآن: 25 - 26.

8- التسهيل لعلوم التنزيل 1: 3.

9- الصافي 1: 42.

10- بحر الفوائد 99 عن شرح الوافية.