الآيات 21-25

قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاء مَاء فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنتُمْ تَخْرُجُونَ﴾

القراءة:

روى حفص عن عاصم " العالمين " بكسر اللام الأخيرة. الباقون بفتحها فمن كسرها اسند (الآيات) إلى العلماء، لأنهم الذين ينظرون فيها، ويعتبرون بها، كما قال " هدى للمتقين " (1) ومن فتح اللام أسند (الآيات) إلى جميع المكلفين الذين يتمكنون من الاستدلال بها والاعتبار بها، سواء كانوا عالمين بها أو جاهلين، لان الامكان حاصل لجميعهم وهو أعظم فائدة. يقول الله سبحانه مخاطبا لخلقه منبها لهم على توحيده وإخلاص العبادة له ب? " أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها " والنفس هي الذات في الأصل ثم يستعمل على وجه التأكيد لقولهم: رأيت زيدا نفسه، ويعبر بها عن الروح وغير ذلك. وقد بيناه (2) وقال قتادة المعنى - ههنا - أنه خلقت حواء من ضلع آدم. وقال غيره: المعنى خلق لكم من شكل أنفسكم أزواجا، وقال الجبائي: المعنى خلق أزواجكم من نطفكم. قال البلخي: وذلك يدل على قوله " هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، فلما تغشاها حملت حملا خفيفا " (3) انه يريد بعض الخلق دون بعض. والزوجة المرأة التي وقع عليها عقد النكاح. والزوج الرجل الذي وقع عليه عقد النكاح. وقد يقال: للمرأة زوج إذا لم يلبس للاشعار بأنهما نظيران في عقد النكاح عليهما قال الله تعالى " اسكن أنت وزوجك الجنة " (4) وقوله ﴿ لتسكنوا إليها ﴾ يعني سكون إنس وطمأنينة، بأن الزوجة من النفس إذ هي من جنسها ومن شكلها فهو أقرب إلى الألفة والميل بالمودة منها لو كانت من غير شكلها. وقوله ﴿ وجعل بينكم مودة ورحمة ﴾ أي جعل بينكم رقة التعطف إذ كل واحد من الزوجين يرق على الآخر رأفة العطف عليه، بما جعله الله في قلب كل واحد لصاحبه ليتم سروره. ثم قال ﴿ إن في ذلك ﴾ يعني في خلق الأزواج مشاكلة للرجال ﴿ لآيات ﴾ أي لدلالات واضحات ﴿ لقوم يتفكرون ﴾ في ذلك ويعتبرون به، والفكر والاعتبار والنظر واحد، فالفكر في أن الأزواج لأي شئ خلقت؟ومن خلقها؟ومن أنعم بها؟ومن جعلها على الأحوال التي يعظم السرور بها؟وكيف لا يقدر أحد من العباد على ذلك؟وذلك من أعظم الدلالة على أن لها خالقا مخالفا لها ومنشئا حكيما يستحق العبادة، ولا يستحقها غيره. ثم نبه على آية أخرى فقال ﴿ ومن آياته ﴾ الدالة على توحيده ووجوب اخلاص العبادة له " خلق السماوات والأرض " وما فيهما من عجائب خلقه من النجوم والشمس والقمر وجريانها على غاية الحكمة والنظام الذي يعجز كل أحد عنها وبما في الأرض من أنواع الأشجار والنبات وأصناف الجمادات التي ينتفع بها وفنون النعم التي يكثر الانتفاع بها " واختلاف ألسنتكم وألوانكم " فالألسنة جمع لسان، واختلافها ما بناها الله تعالى، وهيأتها مختلفة في الشكل والهيئة وتأتي الحروف بها " واختلاف ألسنتكم " أي اختلاف مخارجها التي لا يمكن الكلام إلا بكونها كذلك. وقال قوم: المراد بالألسنة اختلاف اللغات، وهو جواب من يقول: إن اللغات أصلها من فعل الله دون المواضعة. فأما من يقول: اللغات مواضعة فان تلك المواضعة من فعلهم دون فعل الله، غير أنه لما كانت الآلات التي تتأتى بها هذه الضروب لا يقدر على تهيئها كذلك غير الله جاز أن تضاف اللغات إليه تعالى على ضرب من المجاز " وألوانكم " أي واختلاف ألوانكم من البياض والحمرة والشقرة والصفرة، وغير ذلك " ان في ذلك لآيات " أي إن في خلق جميع ذلك لدلالات واضحات لجميع خلقه الذين خلقهم، وأكمل عقولهم ومن كسر اللام أضاف الاعتبار بها إلى العلماء، لأنهم المنتفعون بها دون غيرهم فكأنها خلقت لهم دون غيرهم، كما قال " هدى للمتقين " (5) وإن كانت لجميع المكلفين. ثم قال " ومن آياته " الدالة على توحيده واخلاص العبادة له ﴿ منامكم بالليل والنهار ﴾ فالمنام والنوم واحد، لان في النوم راحة للأجساد من الكد الذي يلحقها، والتعب الذي يصيبها ﴿ وابتغاؤكم ﴾ أي طلبكم المعاش وما ينفعكم ﴿ من فضله ﴾ أي مما يتفضل الله به عليكم. قال البلخي: ويجوز أن يكون المراد بالابتغاء المبتغا، فلذلك كان دلالة عليه دون فعل العباد، وإنما يكون فعل الله دلالة عليه لما كان باقداره وإهدائه إلى مراشده وترغيبه فيه وتسهيله له ﴿ إن في ﴾ خلق الله تعالى ﴿ ذلك لآيات ﴾ واضحات على توحيده ﴿ لقوم يسمعون ﴾ ذلك ويقبلونه ويفكرون فيه، لان من لا يفكر فيه ولا ينتفع به كأنه لم يسمعه. ثم قال ﴿ ومن آياته يريكم البرق خوفا وطمعا ﴾ والبرق نار تحدث في السحاب، بين تعالى أنه إنما يخلقه ليخافوا من عذابه بالنار على معصيته والكفر به، ويطمعوا في أن يتعقب ذلك مطر فينتفعون به ﴿ وينزل من السماء ماء ﴾ يعني غيثا ومطرا ﴿ فيحيي به الأرض بعد موتها ﴾ أي بعد انقطاع الماء عنها وجدوبها. وقيل: ﴿ خوفا ﴾ من المطر في السفر ﴿ وطمعا ﴾ فيه في الحضر. وقيل: ﴿ خوفا ﴾ من الصاعقة ﴿ وطمعا ﴾ في الغيث ﴿ إن في ﴾ خلق الله ﴿ ذلك لآيات ﴾ أي دلالات واضحة ﴿ لقوم يعقلون ﴾ أي يفكرون فيه، لان من لا يفكر فيه ولا ينتفع به وإن كان عاقلا، فكأنه لا عقل له، وقيل: في قوله ﴿ ومن آياته يريكم البرق ﴾ ثلاثة أقوال:

أحدهما: ان تقديره ومن آياته أن يريكم. فحذف (أن) كما قال طرفة:

ألا ايهذا اللائمي احضر الوغى * وأن اشهد اللذات هل أنت مخلدي (6)

الثاني: انه حذف (أنه) لدلالة (من) عليها، كما قال الشاعر:

وما الدهر إلا تارتان فمنهما * أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح (7)

أي فتارة أموت. وفي الآية حذف تقديره: ومن آياته آية يريكم البرق.

الثالث: ويريكم البرق من آياته على التقديم والتأخير من غير حذف. ثم قال ﴿ ومن آياته ﴾ الدالة على ما ذكرناه ﴿ أن تقوم السماء والأرض بأمره ﴾ بلا دعامة تدعمها ولا علاقة تعلق بها، بل لان الله تعالى يسكنها حالا بعد حال لأعظم دلالة على أنه لا يقدر عليه سواه ﴿ ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض ﴾ أي أخرجكم من الأرض ومن قبوركم بعد أن كنتم أمواتا يبعثكم ليوم الحساب فعبر عن ذلك بما هو بمنزلة الدعاء، وبمنزلة ﴿ كن فيكون ﴾ في سرعة تأتي ذلك، وامتناع التعذر عليه، وإنما ذكر هذه المقدورات على اختلافها وعظم شأنها ليدل على أنه القادر الذي لا يعجزه شئ. وفي الآيات دلالة واضحة على فساد مذهب القائلين بان المعارف ضرورية لأنها لو كانت ضرورة لم يكن للتنبيه على هذه الأدلة وجه ولا فائدة فيه لان ما يعلم ضرورة لا يمكن الاستدلال عليه.


1- سورة 2 البقرة 2.

2- انظر 5 / 63 - 64.

3- سورة 7 الأعراف آية 188.

4- سورة 2 البقرة آية 35 وسورة 7 الأعراف آية 18.

5- سورة 2 البقرة آية 2.

6- ديوانه (دار بيروت) 32 وقد مر في 1 / 327 من هذا الكتاب.

7- قائله ابن مقبل، الكتاب لسيبويه وقد مر في 3 / 212 و 4 / 77 من هذا الكتاب.