الآية 33

قوله تعالى: ﴿قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ﴾

القراءة:

قرأ نافع والكسائي والأعشى الا النفار " لا يكذبوك " بسكون الكاف وتخفيف الدال، وهو المروي عن علي (ع) وعن أبي عبد الله (ع). الباقون بفتح الكاف وتشديد الذال من التكذيب. وقرأ نافع " انه ليحزنك " بضم الياء وكسر الزاي. الباقون بفتحها وضم الزاي. قال أبو علي الفارسي (فعل، وفعلته) جاء في حروف، والاستعمال في (حزنته) أكثر من (أحزنته) فإلى كثرة الاستعمال ذهب عامة القراء. وقال تعالى " اني ليحزنني أن تذهبوا به " (1) ويقال حزن يحزن حزنا وحزنا، قال تعالى " ولا تحزن عليهم " (2) ثم قال: " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " (3) قال سيبويه: قالوا (حزن الرجل، وحزنته) قال وزعم الخليل: أنك حيث قلت (حزنته) لم ترد ان تقول جعلته حزينا كما أنك حيث قلت أدخلته أردت جعلته داخلا، ولكنك أردت ان تقول جعلت فيه حزنا كما قلت كحلته أي جعلت فيه كحلا، ودهنته جعلت فيه دهنا، ولم يرد ب? (فعلته) هذا تعدية قوله حزن، ولو أردت ذلك لقلت أحزنته ومثل ذلك ستر الرجل وسترت عليه، فإذا أردت تغيير ستر الرجل قلت أسترت كما تقول فزع وأفزعته. وحجة نافع أنه أراد تغيير (حزن) فنقله بالهمزة. وقال الخليل: إذا أردت تغيير (حزن) قلت (أحزنته) فدل ذلك على أن (أحزن) مستعمل وإن كان (حزنته) أكثر. وحكى أبو زيد: أحزنني الامر احزانا، وهو يحزنني، ضموا الياء. وقال سيبويه: قال بعض العرب: أفنيت الرجل وأحزنته وأرجعته واعورت عينه، أي جعلته حزينا وفانيا، فغيروا ذلك كما فعلوا بالباب الأول. وقوله " قد نعلم أنه " إنما كسرت الهمزة، لان في خبرها لاما للتأكيد. لما علم الله تعالى أن النبي (ص) يحزنه تكذيب الكفار له وجحدهم نبوته سلاه عن ذلك بأن قال " فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون " ومن قرأ بالتخفيف قال: معناه لا يلفونك كاذبا، كما يقولون: سألته فما أبخلته، وقاتلته فما أجبنته أي ما وجدته بخيلا ولا جبانا. وقال أبو عبد الله (ع) معنى " لا يكذبونك " لا يأتون بحق يبطلون به حقك. وقال الفراء: معنى التخفيف لا يجعلونك كذابا، وإنما يريدون أن ما جئت به باطل، لأنهم لم يفتروا عليك كذبا، فيكذبوا لأنهم لم يعرفوه (ص) وإنما قالوا: ان ما جئت به باطل لا نعرفه من النبوة، فأما التكذيب بأن يقال له كذبت، وقال بعض أهل اللغة: هذا المعنى لا يجوز، لأنه لا يجوز أن يصدقوه ويكذبوا ما جاء به، وهو ان الله أرسلني إليكم وأنزل علي هذا الكتاب وهو كلام ربي. ومن قرأ بالتشديد احتمل وجوها:

أحدها: انهم لا يكذبونك بحجة يأتون بها أو برهان يدل على كذبك، لان النبي صلى الله عليه وآله إذا كان صادقا فمحال أن يقوم على كذبه حجة، ولم يرد أنهم لا يكذبونه سفها وجهلا به.

الثاني: أنه أراد فإنهم لا يكذبونك بل يكذبوني لأنا من كذب النبي صلى الله عليه وآله فقد كذب الله، لان الله هو المصدق له كما يقول القائل لصاحبه: فلان ليس يكذبك، وإنما يكذبني دونك، يريد ان تكذيبه إياك راجع إلى تكذيبي، لأني أنا المخبر لك وأنت حال عني.

ثالثها: أن يكون أراد انهم لا ينسبونك إلى الكذب لأنك كنت معروفا عندهم بالأمانة والصدق فإنه صلى الله عليه وآله كان يدعى فيهم الأمين قبل الوحي، وكان معروفا بينهم بذلك لكنهم لما أتيتهم بالآيات جحدوها بقصدهم التكذيب بآيات الله وجحدها لا لتكذيبك، قال أبو طالب: ان ابن آمنة الأمين محمدا.

ورابعها: أن تكون الآية مخصوصة بقوم معاندين كانوا عارفين بصدقه ولكنهم يجحدونه عنادا وتمردا. وقال الحسن: معناه " نعلم أنه ليحزنك الذي يقولون " انك ساحر وانك مجنون فإنهم لا يكذبونك، لان معرفة الله في قلوبهم بأنه واحد " ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون ".

خامسها: قال الزجاج: لا يكذبونك، لا يقدرون أن يقولوا لك فيما أنبأت به بما في كتبهم كذبت. قال أبو علي: يجوز أن يكون المعنى - فيمن ثقل - قلت له كذبت، مثل زنيته وفسقته إذا نسبته إلى الزنا والفسق. و (فعلت) جاء على وجوه نحو خطأته أي نسبته إلى الخطأ، وسقيته ورعيته، أي قلت له سقاك الله ورعاك، وقد جاء في هذا المعنى أفعلته، قالوا: أسقيته، أي قلت له سقاك الله، قال الشاعر:

وأسقيته حتى كاد مما أبثه * تكلمني أحجاره وملاعبه (4)

فيجوز على هذا أن يكون معنى القراءتين واحدا، وان اختلف اللفظان، كما تقول: قللت وكثرت وأقللت وأكثرت بمعنى واحد حكاه سيبويه، وقال الكميت:

فطائفة قد أكفروني بحبكم * وطائفة قالوا مسيئ ومذنب (5)

وحكى الكسائي عن العرب أكذبت الرجل إذا أخبرت انه جاء بكذب، وكذبته إذا أخبرت انه كذاب بقوله كذبته إذا أخبرت انه جاء بكذب، كقولهم: أكفرته إذا نسبوه إلى الكفر، وكذبته أخبرته أنه كذاب مثل فسقته إذا أخبرت انه فاسق. وقوله " ولكن الظالمين " يعني هؤلاء الكفار " بآيات الله " يعني القرآن والمعجزات يجحدون ذلك بغير حجة، سفها وجهلا وعنادا.

1- سورة 12 يوسف آية 13.

2- سورة 15 الحجر آية 88 والنحل 16 آية 127 والنمل 27 آية 70.

3- سورة 2 البقرة آية 38، 62، 112، 262، 274، و 5 المائدة آية 72 و 6 الانعام آية 48 و 7 الأعراف آية 34 و 10 يونس آية 62 وغيرها.

4- مقاييس اللغة 1: 172.

5- قد مر هذا البيت في 1: 116.