الآية 32
قوله تعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾
القراءة:
قرأ ابن عامر " ولدار الآخرة " بلام واحدة مع تخفيف الدال. وخفض (الآخرة) على الإضافة. الباقون بلامين وتشديد الدال وضم الآخرة. وقرأ أهل المدينة وابن عامر وحفص ويعقوب " تعقلون " بالتاء هاهنا وفي (الأعراف ويوسف) وافقهم يحيى والعليمي في (يوسف). ومن قرأ بلامين وشدد الدال جعل (الآخرة) صفة ل? (وللدار)، وأجراها في الاعراب مجراها. واستدل على كونها صفة (للدار) بقوله: " وللآخرة خير لك من الأولى " (1) فاقامتها مقامها يدل على أنها هي وليس غيرها. فيجوز أن يضيف إليها، وقووا ذلك بقوله " وإن الدار الآخرة لهي الحيوان " (2) وقوله " تلك الدار الآخرة " (3) ومن قرأ بلام واحدة وخفف الدال فإنه لم يجعل " الآخرة " صفة (للدار) لان الشئ لا يضاف إلى نفسه لكنه جعلها صفة للساعة، وكأنه قال: ولدار الساعة الآخرة، وجاز وصف الساعة ب? (الآخرة) كما وصف اليوم بالاخر في قوله: " وارجوا اليوم الآخر " (4) وحسن إضافة (الدار) إلى الآخرة ولم يقبح من حيث استقبح إقامة الصفة مقام الموصوف، لان الآخرة صارت كالأبطح والأبرق، ألا ترى أنه قد جاء " وللآخرة خير لك من الأولى (5) واستعملت استعمال الأسماء ولم تكن مثل الصفات التي لم تستعمل استعمال الآخرة. ومثل (الآخرة) في أنها استعملت استعمال الأسماء قولهم: الدنيا، لما استعملت استعمال الأسماء حسن أن لا تلحق لام التعريف في نحو قول الشاعر: في سعي دنيا طال ما قد مدت وقال الفراء: جعلت (الدار) هاهنا اسما و (الآخرة) صفتها، وأضيفت في غير هذا الموضع. ومثله مما يضاف إلى مثله قوله: " حق اليقين " (6) والحق هو اليقين، ومثله قولهم بارحة الأولى، ويوم الخميس، فيضاف الشئ إلى نفسه إذا اختلف اللفظ، وإذا اتفق لم يجز ذلك، لا يقولون حق الحق ولا يقين اليقين، لأنهم يتوهمون إذا اختلفا في اللفظ أنهما مختلفان في المعنى. بين الله تعالى في هذه الآية أن ما يتمتع به في الدنيا بمنزلة اللعب واللهو، اللذين لا عاقبة لهما في المنفعة ويقتضي زوالهما عن أهلها في أدنى مدة وأسرع زمان، لأنه لاثبات لهما ولا بقاء، فأما الاعمال الصالحات، فهي من أعمال الآخرة وليست بلهو ولا لعب. وبين ان الدار الآخرة وما فيها من أنواع النعيم والجنان خير للذين يتقون معاصي الله، لأنها باقية دائمة لا يزول عنهم نعيمها ولا يذهب عنهم سرورها. وقوله " أفلا تعقلون " أن ذلك كما وصفت لهم فيزهدوا في شهوات الدنيا ويرغبوا في نعيم الآخرة بفعل ما يؤديهم إليه من الأعمال الصالحة. ومن قرأ (يعقلون) بالياء، فلانه قد تقدم ذكر الغيبة في قوله " للذين يتقون " والتقدير أفلا يعقل الذين يتقون ان الدار الآخرة خير لهم من هذه الدار فيعملوا بما ينالون به من النعيم الدائم. ومن قرأ بالتاء قصد خطاب جميع الخلق المواجهين به. والعقل هو الامساك عن القبيح وقصر النفس وحبسها على الحسن والحجا أيضا احتباس وتمكث، قال الشاعر: فهن يعكفن به إذا حجا (7) وانشد الأصمعي حيث يحجا مطرق بالفالق (8) حجا أقام بالمكاره، والحجا مصدر كالشبع، ومنه الحجيا اللغز للتمكث الذي يلقى عليه حتى يستخرجها. قال أبو زيد: جمع حجى حجيات، فجاءت الحجيا مصغرة كالثريا والجديا، والنهى يحتمل أن يكون جمعا بدلالة قوله " لأولي النهى " (9) لأنه اضافه إلى الجمع. ويجوز أن يكون مفردا في موضع الجمع، وهو في معنى ثبات، وحسن. ومنه النهي، والنهى والتنهية للمكان الذي ينتهي إليه الماء فينتقع فيه لتسفله ويمنعه ارتفاع ما حوله من أن يسيح فيذهب على وجه الأرض.1- سورة 93 الضحى آية 4.
2- سورة 29 العنكبوت آية 64، 36.
3- سورة 28 القصص آية 83.
4- سورة 29 العنكبوت آية 64، 36.
5- سورة 93 الضحى آية 4.
6- سورة 56 الواقعة آية 5.
7- قائله العجاج. اللسان (حجا) وعجزه (عكف النبيط يلعبون الفنزجا).
8- قائله عمار بن أيمن الرياني. اللسان (حجا).
9- سورة 20 طه آية 54، 128.