الآية 31

قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ﴾

القراءة:

قرأ أبو عمرو ونافع في رواية الأصمعي عنه " حاشا " بألف. الباقون بلا الف، فمن حجة أبي عمرو، قال الشاعر:

حاشى أبي ثوبان إن به * ضنا عن الملحاة والشتم (1)

قال أبو علي الفارسي لا يخلوا قولهم: حاش لله من أن يكون الحرف الجار في الاستثناء، كما ذكرناه في البيت أو فاعل من قولهم: حاشى يحاشي، ولا يجوز أن يكون حرف الجر لان حرف الجر لا يدخل على مثله، ولان الحروف لا تحذف إذا لم يكن فيها تضعيف، فإذا بطل ذلك ثبت انها فاعل مأخوذا من الحشا الذي هو الناحية. والمعنى انه صار في حشاء اي ناحية مما قذف به، وفاعله يوسف، والمعنى بعد عن هذا الذي رمي به " لله " اي لخوفه من الله، ومراقبة امره. ومن حذف الألف، فكما حذف لم يك، ولا أدر، فإذا أريد به حرف الجر يقال حاشا، وحاش، وحشا، ثلاث لغات قال الشاعر:

حشا رهط النبي فان فيهم * بحورا لا تكدرها الدلاء (2)

حكى الله تعالى عن امرأة العزير انها حين سمعت قول نسوة المدينة فيها وعذلهن إياها، ومكرهن بها. وقيل انهن مكرن بها لتريهن يوسف، فلما أطلعتهن على ذلك أشعن خبرها؟، والمكر الفتل بالحيلة إلى ما يراد من الطلبة يقال: هي ممكورة الساقين بمعنى مفتولة الساقين، وممكورة البدن أي ملتفة " أرسلت إليهن " أي بعثت إليهن تدعوهن إلى دعوتها. وقوله " واعتدت لهن متكئا " معناه أعدت، ومعناه اتخذت من العتاد، وقولهم: اعتدت من العدوان، والألف فيه ألف وصل، والمتكأ الوسادة، وهو النمرق الذي يتكأ عليه. وقال قوم: انه الأترج. وانكر ذلك أبو عبيدة. وقوله " وآتت كل واحدة منهن سكينا " قيل إنها قدمت إليهن فاكهة وأعطتهن سكينا ليقطعن الفاكهة، فلما رأينه - يعني يوسف - دهشن " وقطعن أيديهن " وقوله " أكبرنه " أي أعظمنه وأجللنه. وقال قوم: معنى ذلك انهن حضن حين رأينه وأنشد قول الشاعر:

يأتي النساء على أطهارهن ولا * يأتي النساء إذا أكبرن اكبارا (3)

وانكر ذلك أبو عبيدة، وقال: ذلك لا يعرف في اللغة، لكن يجوز أن يكون من شدة ما أعظمنه حضن، والبيت مصنوع لا يعرفه العلماء بالشعر. وقوله " حاش لله " تنزيه له عن حال البشر، وانه لا يجوز أن تكون هذه صورة للبشر، وإنما هو ملك كريم. وقال الجبائي: فيه دلالة على تفضيل الملائكة على البشر لأنه خرج مخرج التعظيم، ولم ينكره الله تعالى، وهذا ليس بشئ، لان الله تعالى حكى عن النساء انهن أعظمن يوسف، لما رأبن من وقاره وسكونه وبعده عن السوء. وقلن: ليس هذا بشرا، بل هو ملك يريدون في سكونه، ولم يقصدن كثرة ثوابه على ثواب البشر، وكيف يقصدنه، وهن لا طريق لهن إلى معرفة ذلك، على أن هذا من قول النسوة اللاتي وقع منهن من الخطأ والميل إليه مالا يجوز ان يحتج بقولهن. وقوله لم ينكره الله، إنما لم ينكره، لأنه تعالى علم انهن لم يقصدن ما قال الجبائي، ولو كن قصدنه لأنكره، على أن ظاهر الكلام انهن نفين أن يكون يوسف من البشر، وفيه قطع على أنه ملك، وهذا كذب، ولم ينكره الله. والوجه فيه انهن لم يقصدن الاخبار بذلك عن حاله، وإنما أخبرن بتشبيه حاله فيما قلناه بحال الملائكة، فلذلك لم ينكره الله. وقوله " ما هذا بشرا " نصب بشرا على مذهب أهل الحجاز في اعمال (ما) عمل ليس، فيرفعون بها الاسم، وينصبون الخبر، فأما بنو تميم، فلا يعلونها قال الشاعر:

لشتان ما أنوي وينوي بنو أبي * جميعا فما هذان مستويان

تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى * وكل فتى والموت يلتقيان (4)

وقد قرئ " ما هذا بشرى " أي ليس بمملوك، وهو شاذ، لا يقرأ به. وقرئ (متكأ) بتسكين التاء قال مجاهد: معنا الأترج، وقال قتادة: معناه طعاما، وبه قال عكرمة وابن اسحق وابن زيد والضحاك، وقال مجاهد، وغيره: أعطي يوسف نصف الحسن، وقيل ثلثه. وقيل ثلثاه، والباقي لجميع الخلق.


1- تفسير القرطبي 9 / 181 ومجاز القرآن 1 / 310، والمفضليات 190 والأصمعيات 80، واللسان والتاج " حشى " وتفسير الطبري " الطبعة الأولى " 12 / 115.

2- اللسان " حشا " ومجمع البيان 3: 229.

3- تفسير القرطبي 9: 180 وتفسير الشوكاني 3: 20.

4- مجمع البيان 3 / 229 وتفسير الطبري 12 / 115.