الآيات 118-119
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾
آيتان في الكوفي والبصري تمام الأولى عند قوله مختلفين وهي آية فيما سوى ذلك. هذه الآية تتضمن الاخبار عن قدرته تعالى بأنه لو شاء تعالى لجعل الناس أمة واحدة أي على دين واحد، كما قال " إنا وجدنا آباءنا على أمة " (1) وقال " ولولا أن يكون الناس أمة واحدة " (2) أي على دين واحد بأن يلجئهم إلى الاسلام بأن يخلق في قلوبهم العلم بأنهم لو داموا على غير ذلك لمنعوا منه، لكن ذلك ينافي التكليف ويبطل الغرض بالتكليف لان الغرض به استحقاق الثواب. وقوله " ولا يزالون مختلفين " معناه في الأديان كاليهود والنصارى والمجوس وغير ذلك من اختلاف المذاهب الباطلة في قول مجاهد وقتادة وعطا والأعمش والحسن في رواية، وفي رواية أخرى عن الحسن أنهم يختلفون بالأرزاق والأحوال ويتحيز بعضهم لبعض والأول أقوى. والاختلاف هو اعتقاد كل واحد نقيض ما يعتقده الآخر، وهو ما لا يمكن أن يجتمعا في الصحة وان أمكن ان يجتمعا في الفساد، ألا ترى أن اليهودية والنصرانية لا يجوز أن يكونا صحيحين مع اتفاقهما في الفساد، ويجوز أن يكون في اختلاف أهل أملل المخالفة للاسلام حق، لان باعتقاد اليهودي ان النصرانية باطلة واعتقاد النصراني ان اليهودية فاسدة حق. وقوله " الا من رحم ربك " استثناء منقطع، ولذلك جعل رأس آية، ولو كان متصلا لم يجز ذلك، وإنما كان استثناء منقطعا، لان الأول على أنهم يختلفون بالباطل، وليس كذلك من رحم لاجتماعهم على الحق. والمعنى " ولا يزالون مختلفين " بالباطل " الا من رحم ربك " بفعل اللطف لهم الذي يؤمنون عنده ويستحقون به الثواب، فان من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل. وقوله " ولذلك خلقهم " قيل في معناه قولان:
أحدهما: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك ان المراد وللرحمة خلقهم وليس لاحد ان يقول لو أراد ذلك لقال: ولتلك خلقهم لان الرحمة مؤنثة اللفظ وذلك أن تأنيث الرحمة ليس بتأنيث حقيقي، وما ذلك حكمه جاز ان يعبر عنه بالتذكير، ولذلك قال الله تعالى " ان رحمة الله قريب من المحسنين " (3) ولم يقل قريبة على أنه لا يمتنع أن يكون المراد: ولان يرحم خلقهم، لان الرحمة تدل على ذلك، فعلى هذا يكون التذكير واقعا موقعه.
الثاني: أن يكون اللام لام العاقبة، والتقدير أنه خلقهم وعلم أن عاقبتهم. تؤل إلى الاختلاف المذموم، كما قال " فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا " (4) وكما قلنا في قوله " ولقد ذرأنا لجهنم " (5) وهو المروي عن ابن عباس والحسن وعطاء ومالك، وقد يكون اللام بمعنى (على) كقولك أكرمتك على برك بي اي لبرك بي، فيكون التقدير، وعلى ذلك خلقهم، ولا يجوز أن يكون اللام لام الغرض، ويرجع إلى الاختلاف المذموم، لان الله تعالى لا يخلقهم ويريد منهم خلاف الحق، لأنه صفة نقص يتعالى الله عن ذلك. وأيضا فلو أراد منهم ذلك الاختلاف، لكانوا مطيعين له، لان الطاعة هي موافقة الإرادة والامر، ولو كانوا كذلك لم يستحقوا عقابا. وقد قال تعالى " وما خلقت الجن والإنس الا ليعبدون " (6) فبين تعالى انه خلقهم وأراد منهم العبادة، فكيف يجوز مع ذلك أن يكون مريدا لخلاف ذلك، وهل هذا الا تناقض ؟! يتعالى الله عن ذلك. على أن في اختلاف أهل الضلال ما يريده الله، وهو اختلاف اليهود والنصارى في التثليث، واختلاف النصارى لليهود في تأبيد شرع موسى وقيل إن معنى الاختلاف ههنا هو مضي قوم ومجئ قوم آخرين، كما قال " هو الذي جعل الليل والنهار خلفة " (7) وهذا الاختلاف يجوز ان يريده الله. وقال الحسن قوله " ولذلك خلقهم " مردود على قوله " وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون " (8) والمعنى خلقهم ليكون عدله فيهم، هذا، لا أن يهلكهم وهم مصلحون. وقوله " ولو شاء ربك الجعل الناس أمة واحدة " على الايمان، وهذه مشيئة القدرة " ولذلك خلقهم " أن تكون مشيئته وقدرته عليهم، ولا يزالون مختلفين " الا من رحم ربك ولذلك خلقهم " قال ليخالف أهل الحق أهل الباطل، وهو كقوله " لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير " (9) ويقوي هذا التأويل قوله " وان كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم أنتم بريئون مما أعمل وانا برئ مما تعملون " (10). وقوله " قل يا أيها الكافرون لا اعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما اعبد " (11)، فيكون الله خلقهم ليخالفوا الكافرين والمبطلين. وقال عمر عن الحسن: ان معنى " ولذلك خلقهم " ليكون أمر الكفار مختلفا بكفرهم وتكذيبهم. وقال البلخي: أخبر أنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم، فإنهم غير مختلفين، هذا معنى الآية، والا فلا معنى لها. ثم قال " ولذلك خلقهم " اي لان يكونوا أمة واحدة متفقين غير مختلفين. وقوله " وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين "، معناه التحذير لكل أحد أن يكون ممن تملأ جهنم به، وتمامها وقوع مخبرها على ما تقدم بها، وهذا يمين أقسم الله به، وتقديره يمينا لا ملان، كما تقول: حلفي لأضربنك، وبدا لي لأضربنك. وكل فعل كان تأويله كتأويل بلغني، أو قيل لي أو انتهى إلي، فان (اللام) و (ان) يصلحان فيه، فتقول بدا لي لأضربنك، وبدا لي ان أضربك، فلو قيل وتمت كلمة ربك أن يملا جهنم من الجنة والناس كان صوابا.
1- سورة الزخرف آية 22، 23.
2- سورة الزخرف آية 33.
3- سورة الأعراف آية 56.
4- سورة القصص آية 8.
5- سورة الأعراف آية 179.
6- سورة الذاريات آية 56.
7- سورة الفرقان آية 62.
8- سورة هود آية 118.
9- سورة الشورى آية 7.
10- سورة يونس آية 41.
11- سورة الكافرون آية 1 - 2.