الآية 212
قوله تعالى: ﴿زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
المعنى:
إنما ترك التأنيث في قوله زين والفعل فيها مسند إلى الحياة وهي المرتفعة به، لأنها لم يسم فاعلها لشيئين:
أحدهما: أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي، وما لا يكون تأنيثه حقيقيا، جاز تذكيره، كقوله تعالى: " فمن جاءه موعظة من ربه " (1) وقوله: " قد جاءكم بصائر " (2) " وأخذ الذين ظلموا الصيحة " (3). و
الثاني: أنه لما فصل بين الفعل والفاعل بغيره، جاز ترك التأنيث، وقد ورد ذلك في التأنيث الحقيقي، وهو قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، فإذا جاز ذلك في التأنيث الحقيقي، ففيما ليس بحقيقي، أجوز، وقد قيل: إنما ترك التأنيث في هذا الموضع، لأنه قصد بها المصادر، فترك لذلك التأنيث. وقيل في معنى تزيين الحياة الدنيا قولان:
أحدهما: قال الحسن، والجبائي، وغيرهما - أن المزين لهم إبليس وجنوده، لأنهم الذين يغوون، ويقوون دواعيه، ويحسنون فعل القبيح، والاخلال بالواجب ويسوفون لهم التوبة، فأما الله تعالى، فلا يجوز أن يكون المزين له، لأنه زهد فيها، فأعلم أنها متاع الغرور، وتوعد على ارتكاب القبائح فيها. والقول
الثاني: إن الله تعالى خلق فيها الأشياء المعجبة، فنظر إليها الذين كفروا بأكثر من مقدارها، كما قال: " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والانعام والحرث " (4) وإنما أراد بذلك ما جبل الخلق عليه من الميل إلى هذه الأشياء، لا أنه حسن جميعها، ولم يقبح شيئا منها، وكلاهما جائزان حسنان. والتزيين، والتحسين واحد، والزين: خلاف الشين، والزينة: اسم جامع لكل ما يتزين به، وهذا أمر زاين له أي مزين له. وقوله: " ويسخرون من الذين آمنوا " معناه: أن قوما من المشركين كانوا يسخرون من قوم من المسلمين، لان حالهم في ذات اليد كانت قليلة، فأعلم الله تعالى: أن الذين اتقوا فوقهم يوم القيامة، لان المسلمين في عليين، والفجار في الجحيم، كما قال تعالى: " إن الذين أجرموا كانوا من الذين آمنوا يضحكون " (5) ثم أخبر عن المؤمنين أنهم يضحكون منهم - في الآخرة -، فقال: " فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون " (6). وقوله: " والله يرزق من يشاء بغير حساب " قيل فيه خمسة أقوال:
أحدها: أن معناه: أنه يعطيهم الكثير الواسع الذي لا يدخله الحساب من كثرته.
الثاني: أنه ليس يرزق المؤمن على قدر إيمانه، ولا الكافر على قدر كفره في الدنيا، ولكن الرزق في الآخرة على قدر العمل، وما يتفضل الله به، ويضاعف به عن رجل على المؤمنين ما يشاء من فضله زيادة على كفايته.
الثالث: أنه يعطى عطاء لا يآخذه بذلك أحد، ولا يسأله عنه سائل، ولا يطالب عليه بجزاء، ولا مكافاة، ولا يثبت ذكره مخافة الاعدام، والاقلال، لان عطيته ليست من أصل ينقص، بل خزائنه لا تفنى، ولا تنفد (جل الله تعالى).
والرابع: قال قطرب معناه: أنه يعطي العدد من الشئ، لامما يضبط بالحساب، ولا يأتي عليه العدد، لان ما يقدر عليه غير متناه، ولا محصور، فهو يعطى الشئ لا من عدد أكثر منه ولا ينقص منه كالمعطى من الآدميين الألف من الألفين والعشرة من المأة.
والخامس: قال بعضهم: إنما عنى بذلك إعطاء أهل الجنة، لان الله تعالى يعطيهم ما يتناهى، ولا يأتي عليه الحساب، فكل ذلك حسن جائز، وإنما قال: " والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة " ولا فضل للكفار في الآخرة لامرين:
أحدهما: أن أحوالهم في الآخرة فوق حال هؤلاء الكفار في الدنيا.
الثاني: أن يكون محمولا على قوله تعالى " أصحاب الجنة يومئذ خير مستقرا " (7) وكما قال حسان يعني رسول الله وأبا جهل. فشر كما لخير كما الفداء (8) ومعنى " يسخرون من الذين آمنوا " أي يهزؤون بهم في زهدهم في الدنيا، لأنهم يوهمهم أنهم على حق، ويفهم عنهم أن اعتقادهم بخلاف ذلك.
1- سورة البقرة آية: 275.
2- سورة الأنعام آية: 104.
3- سورة هود آية: 67.
4- سورة آل عمران آية: 14.
5- سورة المطففين آية: 29.
6- سورة المطففين آية: 34.
7- سورة الفرقان آية: 24.
8- انظر 1: 101 من هذا الكتاب.