الآية 28
قوله تعالى: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾
القراءة:
قرأ حمزة والكسائي وحفص " فعميت " بضم العين وتشديد الميم. الباقون بتخفيف الميم وفتح العين. وقال أبو علي: من قرأ " فعميت " بالتخفيف فلقوله " فعميت عليهم الانباء يومئذ " (1) وهذه مثلها. ويجوز في قوله (فعميت) أمران:
أحدهما: أن يكون عموا هم، الا ترى ان الرحمة لا تعمى وإنما يعمى عنها، فيكون هذا من المقلوب، كقولهم: أدخلت القلنسوة في رأسي، وأدخلت الخاتم في أصبعي ونحو ذلك مما يقلب إذا زال الاشكال.
والآخر: أن يكون معنى عميت خفيت كقول الشاعر:
ومهمه أطرافه في مهمه * أعمى الهدى في الحائرين العمة (2)
أي خفي الهدى ألا ترى أن الهدى ليس بذي جارحة تلحقها هذه الآفة، وقد قيل للسحاب: العمى لخفاء ما يخفيه، كما قيل له: الغمام ومن ذلك قول زهير: ولكنني عن علم ما في غد عمي (3) ومن شدد اعتبر قراءة الأعمش فإنه قرأها فعماها عليهم. وروى ذلك الفراء عن أبي، والمعنيان متقاربان. قال الفراء: يقال عمى علي الخبر وعمي بمعنى واحد. حكى الله تعالى عن نوح ما قاله لقومه جوابا عما قالوه له مما حكيناه فإنه " قال يا قوم أرأيتم ان كنت على بينة " أي برهان وحجة من المعجزة التي تشهد بصحة النبوة. وخصهم بهذا إذ هو طريق العلم بالحق لا ما التمسوا من اختلاف الخلق. وقوله " آتاني رحمة من عنده " يرد عليهم ما ادعوه من أنه ليس له عليهم فضل، فبين ذلك بالهداية إلى الحق من جهة البرهان المؤدي إلى العلم. وقوله " فعميت " يحتمل أمرين:
أحدهما: خفيت علكيم، لأنكم لم تسلكوا الطريق المؤدي إليها.
والآخر: أن يكون المعنى عميتم عنها، وأضاف العمى إلى البينة لما عموا عنها لضرب من المجاز، لان المعنى ظاهر في ذلك، كما يقال: أدخلت الخاتم في يدي والقلنسوة في رأسي، والمراد أدخلت يدي في الخاتم ورأسي في القلنسوة. ومن قرأ بتشديد الميم وضم العين أضاف التعمية إلى غيرهم ممن صدهم عن النظر فيها وأغواهم في ذلك من الشياطين والمضلين عن الحق. وقوله " أنلزمكموها وأنتم لها كارهون " أنضطركم إلى موجب البينة مع العلم مع كراهتكم لذلك فيبطل تكليفكم الاستدلال بالبينة المؤدية إلى المعرفة أي أضطركم إلى حال الضرورة. ووجه آخر - وهو أن يكون المراد إن الذي علي أن أدل بالبينة، وليس علي أن أضطركم إلى المعرفة. وفي قوله " أنلزمكموها " ثلاث مضمرات ضمير المتكلم وضمير المخاطب وضمير الغائب، وهو أحسن ترتيب: بدأ بالمتكلم، لأنه أخص بالفعل ثم بالمخاطب ثم بالغائب، ولو اتى بالمنفصل لجاز لتباعده عن العامل بما فرق بينه وبينه، فأشبه ما ضربت إلا إياك، وما ضربني إلا أنت. وأجاز الفراء " أنلزمكموها " بتسكين الميم جعله بمنزلة عضد وعضد وكبد وكبد. ولا يجوز ذلك عند البصريين، لان الاعراب لا يلزم فيه النقل كما يلزم في بناء الكلمة، وإنما يجيزون مثل ذلك في ضرورة الشعر كقول امرئ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب * إثما من الله ولا واعل (4)
وقال آخر:
وناع يخبرنا بمهلك سيد * تقطع من وجد عليه الأنامل
وقال آخر: إذا اعوججن قلت صاحب قوم.
1- سورة 28 القصص آية 66.
2- قائله رؤبة ديوانه: 166 وتفسير الطبري 1 / 310 وقد مر في 1 / 81.
3- اللسان (عمى).
4- ديوانه: 130 تفسير القرطبي 9 / 26.