الآيات 31-36

قوله تعالى: ﴿سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنتَصِرَانِ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾

سبع آيات حجازي وست في ما عداه، عد الحجازيون " من نار " ولم يعده الباقون. قرأ " شواظ " - بكسر الشين - أهل مكة. الباقون بضمها، وهما لغتان مثل صوار وصوار. وقرأ " نحاس " بالجر أهل مكة والبصرة، غير يعقوب عطفا على (نار). الباقون بالرفع عطفا على " شواظ " وقرأ أهل الكوفة إلا عاصما " سيفرغ " على تقدير سيفرغ الله لكم. الباقون - بالنون - على وجه الاخبار من الله عن نفسه يعني قوله " سنفرغ لكم " من أبلغ الوعيد وأعظم التهديد. وقيل في معناه قولان:

أحدهما: سنفرغ لكم من الوعيد وينقضي ويأتيكم المتوعد به فشبه ذلك بمن فرغ من شئ وأخذ في غيره

الثاني: إنا نستعمل عمل من يتفرغ للعمل لتجويده من غير تضجيع فيه كما يقول: القائل: سأتفرغ لك. والله تعالى لا يشغله شئ عن شئ، لأنه من صفات الأجسام، وهو من أبلغ الوعيد لأنه يقتضي أن يجازى بصغير ذنبه وكبيره إذا كان مستحقا لسخط الله. والفراغ انتفاع القاطع عنه من القادر عليه. والشغل والفراغ من صفات الأجسام التي تحلها الاعراض، وشغلها عن الأضداد في تلك الحال ولذلك وجب أن يكون في صفة القديم تعالى مجازا. وقوله " أيها الثقلان " خطاب للجن والانس، وإنما سميا ثقلين لعظم شأنهما بالإضافة إلى ما في الأرض من غيرهما، فهما أثقل وزنا لعظم الشأن بالعقل والتمكين والتكليف لأداء الواجب في الحقوق، ومنه قول النبي صلى الله عليه وآله (إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي) يريد عظيمي المقدار، فلذلك وصفهما بأنهما ثقلان. وقوله " إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض " قال الضحاك: ان استطعتم أن تنفذوها ربين من العذاب يقال: لهم ذلك يوم القيامة. وقال قوم: معناه إن استطعتم أن تنفذوها ربين من الموت فاهربوا فإنه حيث كنتم أدرككم الموت. وقال ابن عباس: معناه إن استطعتم أن تعلموا ما في السماوات والأرض فاعلموا أنه لا يمكنكم ذلك. وقوله " لا تنفذون إلا بسلطان " معناه إلا بحجة وبيان. وقيل معناه: إلا بملك وقهر، وليس لكم ذلك. وقال الزجاج: المعنى " فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان " أي حيثما كنتم شاهدين. ثم حجة الله وسلطانه الذي يدل على توحيده وواحد الأقطار قطر وهي الأطراف - في قول سفيان - فانفذوا في صورة الامر والمراد به التحدي. ثم قال " لا تنفذون إلا بسلطان " وهو القوة التي يتسلط بها على الامر " فبأي آلاء ربكما تكذبان " وقد فسرناه. وفائدة الآية أن عجز الثقلين عن الهرب من الجزاء كعجزهم عن النفوذ من الأقطار، وفي ذلك اليأس من رفع الجزاء بوجه من الوجوه، فلينظر امرء ما يختار لنفسه مما يجازى به. وقوله " يرسل عليكما شواظ من نار " فالشواظ لهب النار - في قول ابن عباس ومجاهد وقتادة - ومنه قول رؤية:

إن لهم من وقعنا أيقاظا * ونار حرب تسعر الشواظا (1)

والنحاس الصفر المذاب للعذاب - في قول ابن عباس ومجاهد وسفيان وقتادة - وفي رواية أخرى عن ابن عباس وسعيد: النحاس الدخان قال النابغة الجعدي:

يضئ كضوء سراج السليط * السليط لم يجعل الله فيها نحاسا (2)

أي دخانا. والسليط دهن السمسم. وقال قوم: هو دهن السنام. وقال الفراء: هو دهن الزيت. وقوله " فلا تنتصران " أي لا تقدران على دفع ذلك عنكما، ووجه النعمة في إرسال الشواظ من النار والنحاس على الثقلين هو ما لهم في ذلك من الزجر في دار التكليف عن مواقعة القبيح، وذلك نعمة جزيلة، فلذلك قال " فبأي آلاء ربكما " معاشر الجن والإنس " تكذبان ".


1- اللسان (شوظ) ومجاز القرآن 2 / 244 والطبري 27 / 23.

2- ديوانه 75 ومجاز القرآن 2 / 245.