الآيات 14-21
قوله تعالى: ﴿خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ، وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَّا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ﴾
يقول الله تعالى إنه " خلق الانسان " وانشائه ويعني به آدم عليه السلام " من صلصال " وهو الطين اليابس الذي يسمع له صلصلة - في قول قتادة - " كالفخار " أي مثل الطين الذي طبخ بالنار حتى صار خزفا " وخلق الجان من مارج من نار " فالمارج هو المختلط الاجزاء، قال الحسن إبليس أبو الجن، وهو مخلوق من لهب النار، كما أن آدم أبو البشر مخلوق من طين. وصف الله تعالى الانسان الذي هو آدم أبو البشر انه خلقه من صلصال. وفي موضع آخر " من طين لازب " (1) وفي موضع آخر " من حمأ مسنون " (2) وفى موضع آخر " خلقه من تراب " (3) واختلاف هذه الألفاظ لا تناقض فيها، لأنها ترجع إلى أصل واحد وهو التراب، فجعله طينا. ثم صار كالحمأ المسنون. ثم يبس فصار صلصالا كالفخار. وقوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " معناه فبأي نعم ربكما يا معشر الجن والإنس تكذبان ؟! وإنما كررت هذه الآية، لأنه تقرير بالنعمة عند ذكرها على التفصيل نعمة نعمة. كأنه قيل بأي هذه الآلاء تكذبان. ثم ذكرت آلاء أخر فاقتضت من التذكير والتقرير بها ما اقتضت الأولى ليتأمل كل واحد في نفسها وفى ما تقتضيه صفتها من حقيقتها التي تتفصل بها من غيرها. وقوله " رب المشرقين ورب المغربين " تقديره هو رب المشرقين، فهو خبر ابتداء، ولو قرئ بالخفض ردا على قوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " لكان جائزا غير أنه لم يقرأ به أحد. والمعنى انه الخالق المشرق الشتاء ومشرق الصيف، وهو عند غاية طول النهار في الصيف وغاية قصره في الشتاء " ورب المغربين " مثل ذلك - وهو قول مجاهد وقتادة وابن زيد - والمشرق موضع شروق الشمس، وهو طلوعها تقول: شرقت الشمس تشرق شروقا إذا طلعت وأشرقت إذا أضائت وصفت. والمغرب موضع غروب الشمس. والغروب مصيرها في حد الغروب وهو المغيب، غربت تغرب غروبا، ومنه الغريب وهو الصابر في حد الغائب عن النفس وأصله الحد ومنه الغروب مجاري الدموع لزوالها من حدها إلى الحد الآخر. وقوله " فبأي آلاء ربكما تكذبان " أي فبأي نعمة ربكما معاشر الجن والإنس تكذبان. وقد بينا الوجه في تكراره. وواحد الآلاء إلى علي وزن (معا) و (ألا) على وزن (قفا) عن أبي عبيدة. وقوله " مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان " معنى مرج أرسل - في قول ابن عباس. وقال الحسن وقتادة و (البحران) بحر فارس والروم. وقال ابن عباس في رواية أخرى هما بحر السماء وبحر الأرض " يلتقيان " في كل عام. وقيل البحران الملح والعذب. وقيل: مرج البحرين خلط طرفيهما عند التقائهما من غير أن يختلط جملتها " لا يبغيان " أي لا يبغي أحدهما على الآخر بأن يقلبه إلى مثل حاله في الملوحة والعذوبة. ومرج معناه أرسل باذهاب الشيئين فصاعدا في الأرض، فمرج البحرين أرسلهما بالاجراء في الأرض يلتقيان، ولا يختلطان، ذلك تقدير العزيز العليم. والبرزخ الحاجز بين الشيئين، ومنه البرزخ الحاجز بين الدنيا والآخرة. وقال قتادة: البرزخ الحاجز أن يبغي الملح على العذب أو العذب على الملح. وقال مجاهد: معناه لا يبغيان لا يختلطان ومعناه لا يبغيان على الناس. والنعمة بتسخير الشمس أنها تجري دائبة بمنافع الخلق في الدنيا والدين، فبأي آلاء ربكما تكذبان معاشر الجن والإنس.
1- سورة 27 الصافات آية 11.
2- سورة 15 الحجر آية 26، 28، 33.
3- سورة 3 آل عمران آية 59.