الآيات 47-55
قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى، وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى، وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى، وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى، وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى، وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى، فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى، فَبِأَيِّ آلَاء رَبِّكَ تَتَمَارَى﴾
القراءة:
قرأ أهل البصرة غير سهل (عاد الولي) مدغمة بلا همز، وعن نافع خلاف فإنه ادغم وترك الهزة إلا قالون، فإنه همز، الباقون بالهمز والاظهار. من أدغم القى حركة الهمزة على اللام، فانضمت ثم سكنها وحذف همزة الوصل، ولقيتها النون فأدغمت في اللام، ونظير ذلك قول العرب: قم الان عنا، يريدون ثم الآن عنا. وقولهم: صم الاثنين أي صم الاثنين. الباقون تركوه على حاله. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم (وثمود) بلا تنوين. الباقون بتنوين. قال الفراء: وقوله (وآتينا ثمود الناقة) (1) ترك صرفها لأنه ليس فيها الف. لما بين الله تعالى انه هو الذي يخلق الذكر والأنثى من النطفة إذا تمنى ذكر (وان عليه النشأة الأخرى) وهي البعثة يوم القيامة، والنشأة الصنعة المخترعة خلاف المسببة، وهما نشأتان: الأولى في الدنيا، والثانية في الآخرة. ثم قال " وانه هو اغنى وأقنى " ومعناه أغنى بالمال وأقنى بأصول الأموال. وقال مجاهد: اقنى أي أخدم. وقال الزجاج: ومعناه اغنى بعد الفقر وأقنى بالمال الذي يقتنى. وقيل: معنى (اقنى) انه جعل له أصل مال، وهو القنية التي جعلها الله للعبد، فاما (اغنى) فقد يكون بالعافية والقوة والمعرفة قال الأعشى:
فأقنيت قوما واعمرتهم * واخربت من ارض قوم ديارا (2)
أي جعل لهم قنية. واصل (اقنى) الاقتناء، وهو جعل الشئ للنفس على اللزوم، فمنه القناة، لأنها مما يقتنى ومن ذلك أقنى الانف، لأنه كالقناة في ارتفاع وسطه ودقة طريقه. والقنو العذق قبل ان يبلغ لأنه كالذي يقتنى في اللزوم حتى يبلغ، والمقاناة المشاكلة في اللون. وقوله (وأنه هو رب الشعرى) معناه وان الله الذي خلق الشعرى واخترعها. والشعرى النجم الذي خلف الجوزاء وهو أحد كوكبي ذراع الأسد وقم المرزم، وكانوا يعبدونهما في الجاهلية - في قول مجاهد وقتادة - ثم قال " وانه أهلك عادا الأولى " قيل هو عاد بن ارم، وهم الذين أهلكهم الله بريح صرصر عاتية. وعاد الآخرة أهلكوا ببغي بعضهم على بعض، فتفاتوا بالقتل - ذكره ابن إسحاق - وقال الحسن: الأولى أي قبلكم، وإنما فتحت (أن) في المواضع كلها، لأنها عطف على قوله " أم لم ينبأ بما في صحف موسى وإبراهيم الذي وفى أن لا تزر وازرة وزر أخرى " وبكذا وكذا، فلما حذف الباء نصبه. وقوله " وثمود فما أبقى " نصب ب? (أهلك) الذي قبله، وتقديره وأهلك ثمودا فما أبقى، ولا يجوز أن يكون منصوبا بقوله " فما أبقى " لان (ما) لا يعمل ما بعدها في ما قبلها، لا تقول: زيدا ما ضربت، لأنها من الحروف التي لها صدر الكلام، كألف الاستفهام. وقوله " وقوم نوح من قبل " معناه وأهلكنا قوم نوح من قبل قوم صالح " إنهم كانوا هم أظلم وأطغى " فالأظلم الأعظم ظلما، والأطغى الأعظم طغيانا، فالظلم يتعاظم كما يتعاظم الضرر، وعظم الظلم بحسب عظم الزاجر عنه. وقيل: مكث نوح في قومه يدعوهم إلى الله وكلما دعاهم فما يزدادون إلا تتابعا في الضلال وتواصيا بالتكذيب لامر الله - في قول قتادة - وقوله " والمؤتفكة " يعني المنقلبة، وهي التي صار أعلاها أسفلها، وأسفلها أعلاها ائتفكت بهم تؤتفك ائتفاكا، ومنه الافك الكذب، لأنه قلب المعنى عن وجهه. ومعنى " أهوى " نزل بها في الهوى، ومنه الهوى: أهوى بيده ليأخذ كذا، وهوى هواء إذا نزل في الهواء، فأما إذا نزل في سلم أو درجة، فلا يقال: أهوى، ولا هوى. وقيل: قرية سدوم، قوم لوط، رفعها جبرائيل إلى السماء ثم أهوى بها قالبا لها - في قول مجاهد وقتادة - وقوله " فغشاها ما غشى " يعني من الحجارة المسومة التي رموا بها من السماء - في قول قتادة وابن زيد - والمعنى فجللها من العذاب ما يعمها حتى أتى عليها (ما غشى) وفيه تفخيم شأن العذاب الذي رماها به ونالها من جهة إبهامه في قوله " ما غشى " كأنه قد جل الامر عن أن يحتاج إلى تفصيل وصفه. وقوله " فبأي آلاء ربك تتمارى " معناه بأي نعم ربك ترتاب يا بن آدم! - ذكره قتادة - وإنما قيل بعد تعديد النعم " فبأي آلاء ربك تتمارى " لان النقم التي عددت على من ذكر نعم من الله علينا لما لنا في ذلك من اللطف في الانزجار عن القبيح مع أنه نالهم ما نالهم بكفرهم فبأي نعم ربك أيها المخاطب تتمارى حتى تكون مقارنا لهم في سلوك بعض مسالكهم، أي فما بقيت لك شبهة بعد تلك الأهوال في جحد نعمه.
1- سورة 17 الاسرى آية 59.
2- ديوانه (دار بيروت) 82 وروايته (فأقللت).