الآيات 36-46

قوله تعالى: ﴿أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى، أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى، وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَى، وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى، ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاء الْأَوْفَى، وَأَنَّ إلى رَبِّكَ الْمُنتَهَى، وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى، وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا، وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى، مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى﴾

لما وبخ الله تعالى الذي أعطى قليلا وأكدى، وبين أنه ليس عنده علم الغيب فيصدق من قال إنه يتحمل خطاياه، بين ان الذي وعده بذلك (أم لم ينبأ) أي لم يخبر بما في صحف الأنبياء ولم يعلم ذلك ف? (أم) بمعنى (بل) وتقديره بل لم ينبأ بما في صحف موسى والصحف جمع صحيفة والمراد - ههنا - مكتوب الحكمة، لأنها كتب الله. وقوله (وإبراهيم) أي ولا في صحف إبراهيم (الذي وفى) أي وفى بما يجب عليه الله - عز وجل - واستحق أن يمدح بهذا المدح. وقال مجاهد (وإبراهيم الذي وفى ألا تزر وازرة وزر أخرى) وقيل في رسالة ربه في هذا أو في غيره - ذكره سعيد بن جبير وقتادة وابن زيد - وهو أليق بالعموم. وقوله (الذي وفى) قيل: استحق المدح بذبح ولده وإلقائه في النار وتكذيبه في الدعاء إلى الله فوفى ما عليه في جميع ذلك. وقوله (ألا تزر وازرة وزر أخرى) أي بين الله تعالى في صحف إبراهيم وموسى أن لا تزر وازرة وزر أخرى، ومعناه أنه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، يقال: وزر يزر إذا كسب وزرا، وهو الاثم، فهو وازر. وقوله (وأن ليس للانسان إلا ما سعى) معناه ليس له من الجزاء إلا جزاء ما عمل دون ما عمله غيره، ومتى دعا إلى الايمان من أجاب إليه فهو محمود عليه على طريق التبع كأنه من أجل عمله صار له الحمد على هذا، ولو لم يعمل شيئا ما استحق شيئا لا ثوابا ولا عقابا. وقوله (وأن سعيه سوف يرى) معناه إن ما يفعله الانسان ويسعى فيه لابد أن يرى في ما بعد بمعنى أنه يجازى عليه من ثواب أو عقاب، وبين ذلك بقوله (ثم يجزاه الجزاء الأوفى) أي يجازى على اعماله الطاعات بأوفى ما يستحقه من الثواب الدائم، والهاء في (يجزاه) عائدة على السعي. وقوله (وان إلى ربك المنتهى) معناه وأن إلى ثواب ربك وعقابه آخر الأمور، والمنتهى هو المصير إلى وقت بعد الحال الأولى عن حال مثلها، فللتكليف منتهى، وليس للجزاء في دار الآخرة منتهى. والمنتهى قطع العمل إلى حال أخرى والمنتهى والآخر واحد. وقوله (وأنه هو اضحك وأبكى) قيل اضحك بأن فعل سبب ذلك من السرور والحزن، كما يقال أضحكني فلان وأبكاني إذا كان سبب ذلك بما يقع عنده ضحكي وبكائي، فعلى هذا الضحك والبكاء من فعل الانسان. وقد قال الله تعالى (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرا) (1) ولو لم يكن من فعلنا لما حسن ذلك. وقال تعالى (أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون ولا تبكون) (2) وقال (فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون) (3) فنسب الضحك إليهم. وقال الحسن: الله تعالى هو الخالق للضحك والبكاء، والضحك تفتح أسرار الوجه عن سرور وعجب في القلب، فإذا هجم على الانسان منه مالا يمكنه دفعه فهو من فعل الله الذي أضحك وأبكى. والبكاء جريان الدموع على الخد عن غم في القلب، وإنما يبكى الانسان عن فرح يمازجه تذكر حزن، فكأنه عن رقة في القلب يغلب عليها الغم. وقوله (إنه أمات وأحيى) معناه انه تعالى الذي يخلق الموت فيميت به الاحياء لا يقدر على الموت غيره، لأنه لو قدر على الموت غيره لقدر على الحياة، لان القادر على الشئ قادر على ضده، ولا أحد يقدر على الحياة إلا الله. وقوله (وأحيا) أي هو الذي يقدر على الحياة التي يحيي بها الحيوان لا يقدر عليها غيره من جميع المحدثات. ثم بين أيضا (أنه) الذي (خلق الزوجين الذكر) منهما (والأنثى من نطفة) أي خلق الذكر والأنثى من النطفة، وهي ماء الرجل والمرأة التي يخلق منها الولد (إذا تمنى) يعني إذا خرج المني منهما وجعل في الرحم خلق الله تعالى منها الولد إما ذكرا واما أنثى، ومعنى تمنى أي تلقى على تقدير في رحم الأنثى، واصله التقدير يقولون: منى يمني فهو مان إذا قدر قال الشاعر: حتى تقلاقي ما يمنى لك ألماني (4) أي يقدر ومنه التمني تقدير المعنى للاستمتاع به.


1- سورة 9 التوبة آية 83.

2- سورة 53 النجم آية 60.

3- سورة 83 المطففين آية 34.

4- مر في 1 / 319 وهو في القرطبي 17 / 118.