الآيات 31-35
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى، الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُم مِّنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى، أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى، وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى، أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة إلا عاصما (كبير الاثم) على لفظ الواحد. الباقون بلفظ الجمع (كبائر) وقد بيناه في سورة (حم عسق). هذا اخبار من الله بأن له ملك (ما في السماوات) وملك (ما في الأرض) من جميع الأجناس بالحق (ليجزى الذين أساؤا) أي يعاقبهم (بما عملوا) من المعاصي (ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى) أي يثيبهم على طاعاتهم بنعيم الجنة والخلود فيها. ثم وصف الذين أحسنوا فقال هم (الذين يجتنبون كبائر الاثم) أي عظائم الذنوب (والفواحش). والمعاصي - عندنا - كلها كبائر غير أن بعضها أكبر من بعض، فقد تكون المعصية كبيرة بالإضافة إلى ما دونها، وقد تكون صغيرة بالإضافة إلى ما هو أكبر منها. والفواحش جمع فاحشة وهي أقبح الذنوب وأفحشها، والإساءة مضرة يستحق بها الذم، ولا يستحق الذم إلا مسيئ، وذم من ليس بمسئ قبيح، كذم المحسن بالقبيح، والاحسان فعل ما هو نفع في نفسه أو هو سبب للنفع ليستحق به الحمد، ولا يستحق الحمد إلا محسن. والكبير من الذنوب هو الذي يعظم به الزجر إلى حد لا يكفره إلا التوبة منه - عند من لم يحسن إسقاط العقاب تفضلا - والصغير هو الذي يخف فيه الزجر إلى حد يصح تكفيره من غير توبة - عند من قال بالصغائر - وقوله (إلا اللمم) قال قوم: هو الهم بالمعصية من جهة مقاربتها في حديث النفس بها من غير مواقعتها ولا عزم عليها، لان العزم على الكبير كبيرة. ولكن يقرب من مكانها لشهوته لها غير عازم عليها. وقال قوم (إلا اللمم) استثناء منقطع، لأنه ليس من الكبائر ولا الفواحش، كما قال الشاعر:
وبلدة ليس بها أنيس * إلا اليعافير وإلا العيس (1)
واليعفور من الظباء الأحمر والاعيس الأبيض. وقيل (اللمم) مقاربة الشئ من غير دخول فيه، يقال: ألم بالشئ يلم إلماما إذا قاربه. وقيل (اللمم) الصغير من الذنوب، كما قال (ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيأتكم) (2) ذهب إليه ابن عباس وابن مسعود. وقيل (اللمم) اتيان الشئ من غير إقامة عليه قال الحسن: هو إصابة الفاحشة من غير إقامة للمبادرة بالتوبة. ثم أخبر عن نفسه تعالى بأنه واسع المغفرة للمذنبين بقوله (إن ربك) يا محمد (واسع المغفرة هم اعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض) يعني أنشأ أباكم آدم من أديم الأرض. وقال البلخي: يجوز أن يكون المراد به جميع الخلق، من حيث خلقهم الله تعالى من الطبائع الأربعة على حسب ما أجرى العادة من خلق الأشياء عند ضرب من تركيبها، وخلق الحيوان عند تناول أغذية مخصوصة خلقها الله من الأرض، فكأنه تعالى أنشأهم منها. وقوله (وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم) أي هو أعلم بكم في هذه الأحوال كلها لم يخف عليه من أحوالكم شئ منها. ثم نهاهم تعالى فقال (فلا تزكوا أنفسكم) أي لا تعظموها ولا تمدحوها بما ليس لها، فاني أعلم بها (هو اعلم بمن اتقى) معاصيه وفعل طاعاته والفرق بينه وبين من خالفه. وقال قوم: نهاهم أن يزكوا أنفسهم بفعل الواجبات، وفعل المندوبات، وترك القبائح لأنه أقرب إلى النسك والخشوع. والأجنة جمع جنين. وهو الدفين في الشئ قال الحارث:
ولا شمطاء لم تترك شفاها * لها من تسعة إلا جنينا (3)
أي إلا دفينا في قبره، ثم قال للنبي صلى الله عليه وآله (أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا واكدى) قال مجاهد: نزلت في الوليد ابن المغيرة وكان أعطى قليلا من ماله لمن يتحمل عنه العذاب في الآخرة. ثم منع ما ضمن له. وقيل: إن (الذي أعطى قليلا واكدى) هو المنافق الذي يعطي قليلا في المعونة على الجهاد ثم يمنع وقال ابن عباس ومجاهد: معنى (وأكدى) قطع العطاء، كما يقطع البئر الماء واشتقاق (اكدى) من كدية الركية، وهي صلابة تمنع الماء إذا بلغ الحافر إليها يئس من الماء، فيقول بلغنا كديتها أي صلابتها التي تويئس من الماء، يقال: اكدى يكدي إكداء إذا منع الخير، وكديت أظفاره إذا غلظت، وكديت أصابعه إذا كلت، فلم تعمل شيئا، وكدى النبت إذا قل ريعه، والأصل واحد. وقيل: الكدية صخرة يبلغ إليها حافر البئر فلا يمكنه الحفر. وقوله (أعنده علم الغيب فهوى يرى) إنكار على من ذكره، وهو الذي تولى وأعطى قليلا من ماله ليتحمل عنه خطأه، فقال (أعنده علم الغيب فهوى يرى) أي يعلم صدق الذي وعده ليتحمل خطاياه ؟!
1- مر في 1 / 151 و 3 / 327 و 5 / 498 و 7 / 501.
2- سورة 4 النساء آية 30.
3- اللسان (جنن).