الآيات 11-20

قوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى، أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى، عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى، إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى، لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى، أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى، وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى﴾

القراءة:

قرأ أهل الكوفة إلا عاصما ويعقوب " أفتمرونه " بمعنى أفتجحدونه، وهو قول إبراهيم. وقرأ الباقون " أفتمارونه " بمعنى أفتجادلونه في أنه رأى ربه بقلبه أو آيات الله ومعجزاته. وقرأ ابن عامر - في رواية هشام - وأبي جعفر " ما كذب " مشددة الدال الباقون بالتخفيف. وقرأ ابن كثير والأعشى إلا ابن غالب " ومناة " مهموزة ممدودة. الباقون " ومناة " مقصورة، وهما لغتان. يقول الله تعالى إنه لم يكذب فواد محمد ما رآه بعينه يعني لم يكذب محمد بذلك بل صدق به والفؤاد القلب. وقال ابن عباس: يعني ما رأى بقلبه. وقال الحسن: إنه رأى ربه بقلبه. وهذا يرجع إلى معنى العلم. ومعنى " ما كذب الفؤاد " أي ما توهم أنه يرى شيئا وهو لا يراه من جهة تخيله لمعناه، كالرائي للسراب بتوهمه ماء ويرى الماء من بعيد فيتوهمه سرابا. ومن شدد أراد لم يكذب فؤاد محمد ما رأت عيناه من الآيات الباهرات فعداه. ومن خفف فلان في العرب من يعدي هذه اللفظة مخففة، فيقولون صدقني زيد وكذبني خفيفا، وصدقني وكذبني ثقيلا وانشد:

وكذبتني وصدقتني * والمرؤ ينفعه كذابه (1)

والفرق بين الرؤية في اليقظة وبين الرؤية في المنام أن رؤية الشئ في اليقظة إدراكه بالبصر على الحقيقة، ورؤيته في المنام لصورة في القلب على توهم الادراك بحاسة البصر من غير أن يكون كذلك. وقوله " أفتمارونه " فمن قرأ " أفتمرونه " أراد أفتجحدونه. ومن قرأ " أفتمارونه " أراد أفتجادلونه وتخاصمونه مأخوذ من المراء وهو المجادلة (على ما يرى) يعني على الشئ الذي يراه. وقوله (ولقد رآه نزلة أخرى) قال عبد الله بن مسعود وعائشة ومجاهد والربيع: رآى محمد صلى الله عليه وآله جبرائيل عليه السلام دفعة أخرى. وروي أنه رآه في صورته التي خلقه الله عليها مرتين. وقوله (عند سدرة المنتهى) قيل: هي شجرة النبق وقيل لها: سدرة المنتهي في السماء السادسة، إليها ينتهي ما يعرج إلى السماء - في قول ابن مسعود والضحاك - وقيل: لأنه ينتهي إليها أرواح الشهداء. وقوله (عندها جنة المأوى) معناه عند سدرة المنتهى جنة المقام وهي جنة الخلد، وهي في السماء السابعة. وقيل: إنه يجتمع إليها أرواح الشهداء. وقال الحسن: جنة المأوى هي التي يصير إليها أهل الجنة. وقوله (إذ يغشى السدرة ما يغشى) معناه يغشى السدرة من النور والبهاء والحسن والصفاء الذي يروق الابصار ما ليس لوصفه منتهى. وقال ابن مسعود ومجاهد - وروي ذلك عن النبي صلى الله عليه وآله أنه غشى السدرة فراش الذهب. وقال الربيع: غشيها من النور نور الملائكة. وقوله (ما يغشى) أبلغ لفظ في هذا المعنى والغشيان لباس الشئ مما يعمه، يقال غشيه يغشاه غشيانا. وقوله " ما زاغ البصر " اي ما ذهب عن الحق المطلوب، والزيغ الذهاب عن الحق المطلوب، يقال: زاغ بصره وقلبه يزيغ زيغا، ومنه قوله " فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم " (2) ومنه قوله " فاما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه " (3) والزيغ الميل عن الحق " وما طغى " معناه ما طغى البصر أي ما ذهب يمينا وشمالا. وقيل: ما ارتفع كارتفاع الظالم عن الحق لمن يريده، والطاغي الذي لا يلوي على شئ. والطغيان طلب الارتفاع بظلم العباد: طغى يطغي طغيانا. والطاغي والباغي نظائر. وهم الطغاة والبغاة، والمعنى ما زاغ بصر محمد وما طغى أي ما جاوز القصد ولا عدل في رؤية جبرائيل، وقد ملا الأفق. وقوله " لقد رأى من آيات ربه الكبرى " قسم من الله تعالى ان النبي صلى الله عليه وآله رأى من آيات الله ودلائله أكبرها جنة الخلد وهي في السماء السابعة وقيل: إنه يجتمع فيها أرواح الشهداء وهي الكبرى التي تصغر عندها الآيات في معنى صفتها. والأكبر هو الذي يصغر مقدار غيره عنده في معنى صفته. وقيل رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنة قد سد الأفق - في قول ابن مسعود -. وقوله (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) أسماء أصنام كانت العرب تعبدها، والعزى كانت تعبدها غطفان، وهي شجرة سمرة عظيمة، واللات صنم كانت ثقيف تعبدها، ومنات كانت صخرة عظيمة لهذيل وخزاعة كانوا يعبدونها فقيل لهم: أخبرونا عن هذه الآلهة التي تعبدونها وتعبدون معها الملائكة وتزعمون أن الملائكة بنات الله، فوبخهم الله تعالى فقال (أفرأيتم) هذه (اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى) والمعنى أخبرونا عن هذه الآلهة التي تدعونها من دون الله هل لها من هذه الآيات والصفات شئ.


1- مر في 8 / 390.

2- سورة 61 الصف آية 5.

3- سورة 3 آل عمران آية 7.