الآية 152
قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
القراءة:
قرأ أهل الكوفة الا أبا بكر " تذكرون " بتخفيف الذال حيث وقع. الباقون بالتشديد. قال سيبويه: ذكرته ذكرا مثل شربا، قال أبو علي: (ذكر) فعل يتعدى إلى مفعول واحد، كقوله " فاذكروني أذكركم " (1) فإذا ضاعفت العين تعدى إلى مفعولين كقولك ذكرته أباه قال الشاعر:
يذكر نيك حنين العجول * ونوح الحمامة تدعو هديلا
فان نقله بالهمزة كان كنقله بالتشديد، وتقول: ذكرته فتذكر، لان تذكر مطاوع (فعل) كما تفاعل مطاوع فاعل، قال تعالى " إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا " (2) وقد تعدى تفعلت قال الشاعر:
تذكرت أرضا بها أهلها * أخوا لها فيها وأعمامها
وأنشد أبو زيد:
تذكرت ليلى لات حين أذكارها * وقدحني الاضلال ضلا بتضلال
فقال أذكارها، كما قال " وتبتل إليه تبتيلا " (3) ونحو ذلك مما لا يحصى مما لا يجئ المصدر على (فعلة)، وجاء المصدر على (فعلى) بألف التأنيث، فقالوا ذكرى وقالوا في الجمع الذكر، فجعلوا بمنزلة (سدرة، وسدر) وقالوا: الدكر بالدال غير المعجمة حكاه سيبويه، والمشهور بالذال. فمن قرأ بتشديد الذال أراد يتذكرون ويأخذون به، ولا يطرحونه وادغم التاء في الذال، والمعنى يتذكرون، كما قال " والنهار خلفة لمن أراد ان يذكر " (4) أي يتفكر وقال " أولا يذكر الانسان " (5) معناه أولا يتفكر، وقال " ولقد صرفناه بينهم ليذكروا " (6) أي ليتفكروا فيه. ومن قرأ - بتخفيف الذال - أراد لكي يذكروه ولا ينسوه فيعملوا به. والقراءتان متقاربتان غير أن هذا حذف التاء الأولى، والأولون أدغموا التاء في الذال. والمعنى فيها لعلكم تتذكرون. هذه الآية عطف على ما حرم الله في الآية الأولى وأوصى به، فنهى في هذه الآية ان تقربوا مال اليتيم الا بالتي هي أحسن، والمراد بالقرب التصرف فيه، وإنما خص اليتيم بذلك وإن كان واجبا في كل أحد، لان اليتيم لما كان لا يدفع عن نفسه ولا له والد يدفع عنه، فكان الطمع في ما له أقوى تأكد النهي في التصرف في ما له. وقوله " الا بالتي هي أحسن " قيل في معناه ثلاثة أقوال:
أحدها: حفظه عليه إلى أن يكبر فيسلم إليه.
وقيل: معناه تثميره بالتجارة في قول مجاهد والضحاك والسدي.
الثالث: ما قاله ابن زيد: ان يأخذ القيم عليه بالمعروف دون الكسوة. وقوله " حتى يبلغ أشده " اختلفوا في حد الأشد، فقال ربيعة وزيد بن أسلم ومالك وعامر الشعبي: هو الحلم. وقال السدي: ثلاثون سنة. وقال قوم: ثماني عشرة سنة. لأنه أكثر ما يقع عندهم البلوغ واستكمال العقل. وقال قوم قوم: انه لاحد له وإنما المراد به حتى يكمل عقله ولا يكون سفيها يحجر عليه. والمعنى حتى يبلغ أشده فيسلم إليه ماله أو يأذن في التصرف في ماله، وحذف لدلالة الكلام عليه. هذا أقوى الوجوه. وواحد الأشد قيل فيه قولان:
أحدهما: شد مثل أضر جمع ضر، وأشد جمع شد. والشد القوة، وهو استحكام قوة شبابه وسنه، كما شد النهار ارتفاعه. وحكى الحسين بن علي المغربي عن أبي اسامة أن واحدة شدة. مثل نعمة وانعم.
وقال بعض البصريين: الأشد واحد مثل الافك. ومن قال إن واحده شد استدل بقول عنترة:
عهدي به شد النهار كأنما * خضب البنان ورأسه بالعظلم (7)
هكذا رواه المفضل الضبي. وقال الآخر:
يطيف به شد النهار ظعينه * طويلة انقاء اليدين سحوق (8)
وقوله " وأوفوا الكيل والميزان بالقسط " أمر من الله بتوفية كيل ما يكال وتوفية وزن ما يوزن بالقسط يعني بالعدل * وفاء من غير بخس. وقوله " لا نكلف نفسا الا وسعها " معناه هنا انه لما كانا لتعويل في الوزن والكيل على التحديد من أقل القليل يتعذر، بين انه لا يلزم في ذلك الاجتهاد في التحرز. وقوله " وإذا قلتم فأعدلوا " يعني قولوا الحق. ولو كان على ذي قرابة لكم. وإنما خص القول بالعدل دون الفعل، لان من جعل عادته العدل في القول دعاه ذلك إلى العدل في الفعل، لان ذلك من آكد الدواعي إليه والبواعث عليه. وقوله " وبعهد الله أوفوا " قيل في معنى العهد هاهنا قولان:
أحدهما: كل ما أوجبه على العبد فقد عهد إليه بايجابه عليه وتقديم القول فيه والدلالة عليه.
الثاني: قال أبو علي عهد الله الحلف بالله، فإذا حلف في غير معصية الله وجب عليه الوفاء. وقوله " ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون " قيل في معناه قولان:
أحدهما: لئلا تغفلوا عنه فتتركوا العمل به والقيام بما يلزم منه.
الثاني: لتتذكروا كل ما يلزمكم بتذكر هذا فتعملوا به.1- سورة 2 البقرة آية 152.
2- سورة 7 الأعراف آية 200.
3- سورة 73 المزمل آية 8.
4- سورة 25 الفرقان آية 62.
5- سورة 19 مريم آية 67.
6- سورة 25 الفرقان آية 50.
7- ديوانه 27 وتفسير الطبري 12: 222.
8- تفسير الطبري 12: 222.