الآية 112
قوله تعالى: ﴿بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾
فان قيل: أليس بلى إنما تكون في جواب الاستفهام مثل قوله " الست بربكم قالوا بلى " فكيف دخلت هاهنا؟قلنا إنما جاز ذلك لأنه يصلح أن يكون تقديره أما يدخل الجنة أحد فقيل " بلى من أسلم وجهه الله " لان ما تقدم يقتضي هذا السؤال، ويصلح أن يكون جوابا للجحد على التكذيب - كقولك: ما قام زيد فيقول: بلى قد قام، ويكون التقدير هاهنا ليس الامر كما قال الزاعمون " لن يدخل الجنة الا من كان هودا أو نصارى " ولكن " من أسلم وجهه لله وهو محسن " فهو الذي يدخلها وينعم فيها، أو بلى من اخلص نفسه لطاعة الله.
ومعنى أسلم يحتمل أمرين:
أحدهما: أسلم إلى كذا بمعنى صرفه إليه كقولك أسلمت الثوب إليه.
والثاني: أسلم له بمعنى اخلص له من قولك: قد سلم الشئ لفلان إذ اخلص له. ومنه قوله: " ورجلا سلما لرجل " (1) اي خالصا وقال زيد ابن عمرو بن نفيل:
وأسلمت نفسي لمن أسلمت * له المزن تحمل عذبا زلالا (2)
وإنما جاز أسلم وجهه لله على معنى أسلم نفسه لله على مجرى كلام العرب في استعمال وجه الشئ، وهم يريدون نفس الشئ، إلا انهم ذكروه باللفظ الأشرف الأنبه ودلوا عليه به. كما قال عز وجل: " كل شئ هالك إلا وجهه " (3) أي إلا هو.
وقال: " كل من عليها فان ويبقى وجه ربك " (4) وقال الأعشى:
أؤول الحكم على وجهه * ليس قضائي بالهوى الجائر (5)
يعني على ما هو من صحته، وصوابه.
وقال ذو الرمة:
فطاوعت همي وانجلى وجه بازل * من الامر لم يترك خلاجا بزولها (6)
يريد انجلى البازل من الامر. وقال ابن عباس: أسلم وجهه لله: اخلص عمله لله. وقال الربيع: اخلص لله. وقال الحسن: يعني بوجهه: وجهه في الدين. وقيل معناه استسلم لامر الله. ومن الوجه يقال: توجه توجها، وواجه مواجهة، وتواجهوا تواجها. والجهة: النحو. تقول: كذا على وجه كذا، والوجهة القبلة شبهها في كل وجهة: اي كل وجه استقبلته، واخذت فيه. وتقول توجهوا إليك، ووجهوا إليك. كل يقال: غير أن قولك: توجهوا إليك على معنى ولو إليك وجوههم. والتوجه الفعل اللازم.
والوجاه والتجاه لغتان: وهو ما استقبل شئ شيئا تقول دار فلان تجاه دار فلان. والمواجهة: استقبالك بكلام أو بوجه. وأصل الباب الوجه مستقبل كل شئ ووجه الانسان: محياه. ونقيض الوجه القفاء. ويقال: وجه الكلام، تشبيها بوجه الانسان، لأنه أول ما يبدو منه، ويعرف به. وقد يقال في الجواب: هذا وجه وذلك خلف، تشبيها أيضا من جهة الحسن، لان الغالب في الوجه انه أحسن. ويقال: هذا وجه الرأي الذي يبدوا منه، ويعرف به. والوجه من كل شئ: أول ما يبدو، فيظهر بظهور ما بعده. وقوله: " وهو محسن " في موضع نصب، لأنه في موضع الحال.
وإنما قال: " فله اجره " على التوحيد، ثم قال: " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " على الجمع لان (من) لفظها لفظ الواحد، ومعناها الجمع، فمرة تحمل على اللفظ: وأخرى على المعنى كما قال: " ومنهم من يستمع إليك " (7) وفي موضع اخر " ومنهم من يستمعون إليك " (8).
وقال الفرزدق:
تعال فان عاهدتني لا تخونني * نكن مثل من يا ذئب يصطحبان (9)
فثنى واللفظ واحد لأجل المعنى. فان قيل إذا كان قد ذكر " فلهم اجرهم عند ربهم " فلم قال: " ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " قيل عن ذلك جوابان:
أحدهما: الدلالة على أنهم على يقين لا على رجاء يخاف معه ألا يكون الموعود به.
والثاني: الفرق بين حالهم، وبين حال أهل العقاب الذي يخافون ويحزنون.
1- سيرة ابن هشام 1: 246 المزن واحدته مزنة: وهو السحاب عامة. وقيل: المزن: السحاب البيضاء.
2- سورة القصص آية: 88.
3- سورة الرحمان: آية 27.
4- ديوانه: 143. رقم القصيدة 18. أول الحكم إلى أهله: رده إليهم. الجائر: المنحرف عن الصواب. في المطبوعة والمخطوطة " وأول " بدل " أؤول ". " ب? " ديوانه: 56 من قصيدة يمدح بها عبيد الله بن عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي طاوعت همي: طاوعت ما همت به نفسي. وقوله: بازل من الامر هذا مثل. يقال: بزل ناب البعير يزولا اي انشق وظهر. وخطة بزلاء: تفصل بين الحق والباطل. والخلاج: الشك والتردد. والبيت في المطبوعة هكذا: فطاعت هي وانجل أوجه نازل * من الامر لم يترك خلاجا تزولها وفي المخطوطة قريب من هذا.
5- سورة انعام: آية 25 وسورة محمد: آية 16.
6- سورة يونس: آية 42.
7- انظر 1: 248.
8- أثبت ثلاثة أمور.
9- لم نجد هذا البيت في مصادرنا ووجدنا بيتا يشبهه في شواهد سيبويه 1: 123 ولم ينسبه وهو! تراكها من إبل تراكها * أما ترى الموت لدى أوراكها وهذا أيضا موجود في الكامل للمبرد: 413.