الآية 55
قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ﴾
وهذه الآية أيضا عطف على ما تقدم كأنه قال واذكروا إذ قلتم يا موسى لن نصدق حتى نرى لله جهرة.
اللغة:
فالرؤيا والنظر والابصار نظائر في اللغة يقال: رأى رؤية ورأي من الرأي رأيا.وأراه لله إراءة وتراءى القوم ترائيا.وارتأى ارتياء وراءاه مراءاة قال صاحب العين: الرأي رأي القلب والجمع الآراء.
وتقول: ما أضل آراءهم على التعجب ورأيهم أيضا ورأيت رؤية وتقول رأيته رأي العين.أي حيث يقع البصر عليه.وتقول من رأي القلب: ارتأيت.وتقول: رأيت رؤيا حسنة.وتقول: رأيت فلانا ذا مسحة في اللون، وزية حسنة في اللباس، والمتاع.والذي يتعرض بزيه كهانة أو طبا.وفي بعض اللغات ريت بمعنى رأيته.
وعلى ذلك قراءة من قرأ أريت قال الشاعر: قد ريت منه عجبا من الكبر وتراءى القوم: إذا رأى بعضهم بعضا وتراءى لي فلان: إذا تصدى لي فأراه والرواء: المنظر في البهاء والجمال.تقول: امرأة لها رواء وبهاء وسناء أي حسنة.والمرآة مثل المنظرة والمنظر والمرآة التي ينظر فيها وجمعها مراءى.ومن حول الهمزة قال: مرايا.تقول مرأت المرأة: إذا نظرت وجهها.وفي الحديث لا يتراءى أحدكم في الماء أي لا ينظر فيه.ويحذفون الهمزة في كل كلمة تشتق من رأيت إذا كانت الراء ساكنة تقول أريت فلانا فانا مري وهو مري.أي بحذف الهمزة وأثبتوها في موضعين في قولهم رأيته فهو مرئي أرأت الناقة والشاة إذا يرى ضرعها انها قد اقربت وأنزلت.وهي مرئى.
والحذف فيه أيضا صواب وتقول: من الظن رأيت أن فلانا أخوك.ومنهم من يحذف الهمزة يقول ريت انه ومن قلب الهمزة من رأى قال رأي مثل ما تقولون: آرتيت واستريت بالمرآة والمرئية: مكسورة الراء مهموزة ممدودة ما ترى المرأة من الحيض صفرة أي بياضا قبلا أو بعد أو أما البصير بالعين فهو الرؤية.
إلا أن تقول نظرت إليه رأي العين فيه وتقول: ما رأيته إلا رؤية واحدة وتقول للذي يريك الشئ مري والمرأة مرية بلا همزة وتقول رأيت فلانا برؤية والمرآة التي تنظر فيها والرأي ما رأيت القوم في حسن البشارة والهيئة قال جرير:
وكل قوم لهم رأي ومختبر * وليس في تغلب رأي ولا خبر
واصل الباب: الرؤية بالعين وشبه الرؤية بالقلب به بمعنى العلم.والرأي يرى حال صلاح ويظن خلافها.والمرية لأنها بمنزلة الآلة للقلب يرى بها.والجهرة، والعلانية، والمعاينة نظائر تقول: جهر جهرا أو جاهر مجاهرة، وجهارا.وتجاهروا تجاهرا.ورجل جهير الصوت.قال صاحب العين: جهر فلان بكلامه، وهو يجهر بقراءته جهارا، واجهر بقراءته اجهارا.وجاهرتم بالامر جهارا أي عالنتم به اعلانا واجتهر القوم فلانا جهارا: إذا نظروا إليه وكل شئ يبدو فقد جهر ورجل جهير: إذا كان في المنظر والجسم في الناس مجهرا.وكلام جهير، وصوت جهير أي عال.والفعل منه جهر جهارة.والجهير هو الجرئ المتقدم والجهوري: هو الصوت العالي.والجوهر: كل حجارة يستخرج منها شئ ينتفع به وجوهر كل شئ ما خلقت عليه حلية.والشاة الجهر التي لا تبصر في الشمس والكبش اجهر وقال بعضهم: جهرت البئر: إذا أخرجت ما فيها من الحمأة، والماء.وبئر مجهورة.والجهر: ضد السر وجهرني الرجل إذا راعك جماله وهيئته.ورجل جهير ذو رواء واصل الباب الظهور.
والجهر يقتضي ظاهرا بعد أن يكون خافيا، ليدرك ما لم يكن قبل مدركا ويستدل بالجهر على أنهم أرادوا الرؤية بالعين دون رؤية القلب.وحقيقة الجهر ظهور الشئ معاينة والفرق بين الجهر والمعاينة أن المعاينة ترجع إلى حال المدرك والجهرة ترجع إلى حال المدرك.
المعنى:
ومعنى قوله: " حتى نرى الله جهرة " قال ابن عباس: علانية.وقال قتادة عيانا.وقد تكون الرؤية غير جهره كالرؤية في النوم والرؤية بالقلب فإذا قال جهرة لم يكن إلا رؤية العين على التحقيق، دون التخيل وسؤالهم الرؤية.قال قوم: هو كفر لان إجازة الرؤية كفر.وقال آخرون: ليس بكفر وإنما إجازة الرؤية التي تقتضي التشبيه كفر.فاما هذا القول منهم فكفر اجماعا، لأنه رد على الرسول وكل من يلقى قول الرسول بالرد من المكلفين، كان كافرا.
واما الصاعقة فإنها تكون على ثلاثة أوجه:
أولها: الموت: كقوله: " فصعق من في السماوات ومن في الأرض " (1) " فاخذتكم الصاعقة " (2).
الثاني: العذاب: كقوله: " فان اعرضوا فقل أنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود " (3).
والثالث: نار تسقط من السماء كقوله: " ويرسل الصواعق " (4) وأكثرهم على أن موسى لم يمت بالصاعقة كما مات من سأل الرؤية وقال شاذ منهم: انه مات بالصاعقة وقوله: " وخر موسى صعقا " أي مغشيا عليه عند أكثر المفسرين بدلالة قوله: " فلما أفاق " والا فاقة لا تكون إلا من الغشية دون الموت، وإلا لكان قد قال فلما حيي.
وقوله: " جهرة " مشتق من جهرت الركية اجهرها جهرا وجهرة: إذا كان ماؤها قد غطاه الطين، فنقيت حتى ظهر الماء وقيل: اخذ من قولهم: فلان تجاهر بالمعاصي: إذا كان لا يسرها وإنما فزعوا بسؤال اسلافهم الرؤية من حيث إنهم سلكوا طريقهم في المخالفة للنبي الذي لزمهم اتباعه والتصديق بجميع ما اتى به فجروا على عادة اسلافهم في ذلك الذين كانوا يسألون تارة ان يجعل لهم إلها غير الله ومرة يعبدون العجل من دون الله ومرة يقولون: " لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة " ومرة يقولون: " اذهب أنت وربك فقاتلا انا ههنا قاعدون " وقال الزجاج في هذه الآية دلالة على مشركي العرب الذين كانوا ينكرون البعث، لأهل الكتاب مع مخالفتهم الرسول يقرون بإذن الله أمات قوما في الدنيا، ثم أحياهم وعندنا ان نقل أهل الكتاب لمثل هذا ليس بحجة وإنما الحجة في اخبار الله على لسان نبيه وحده إذ كان كلما يخبر به فهو حق وصدق.واستدل البلخي بهذه الآية على أن الرؤية لا تجوز على الله تعالى.
قال لأنها انكارهم أمرين ردهم على نبيهم، وتجويزهم الرؤية على ربهم وبين ذلك قوله تعالى: فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فدل ذلك على أن المراد إنكار الامرين وهذه الآية تدل على قوله: " رب أرني انظر إليك " كان سؤالا لقومه، لأنه لا خلاف بين أهل التوراة ان موسى ما سأل الرؤية الا دفعة واحدة.وهي التي سألها لقومه وقوله: " لن نؤمن لك " تعلق بما يخبرهم به من صفات الله عز وجل، لأنهم قالوا لن نؤمن لك بما تخبرنا به من صفاته وما يجوز عليه حتى نراه.
وقيل: انه لما جاءهم بالألواح وفيها التوراة قالوا لن نؤمن بان هذا من عند الله حتى نراه جهرة ونرى على وزن نفعل واصله: نرأى قال الشاعر:
أرى عيني ما لم ترأياه كلانا * عالم بالترهات فجاء به على الأصل
وقال آخر:
ألم تر ما لاقيت والدهر اعصر * ومن يتمل العيش يراى ويسمع
وإنما دعاهم إلى أن قالوا لن نؤمن لك حتى نرى الله شكهم، وحيرتم فيما دعاهم إليه موسى (ع) من توحيد الله عز وجل، ولو كانوا عارفين، لكان دعاهم إليه العناد لموسى ومعلوم انهم لم يكونوا معاندين له (ع).وفي الناس من قال: إن قولهم: جهرة من صفه السؤال على التقديم والتأخير كأنه قال: وإذا قلتم جهرة لن نؤمن لك حتى نرى الله.
وقال الا كثر إنها من صفة الرؤية.وهو الأقوى، لان ما قالوه ترك الظاهر، وتقدير التقديم والتأخير ليس هنا إلى ذلك حاجة.وقوله: " وأنتم تنظرون " يعني ما نزل بكم من الصاعقة والموت.
1- سورة البقرة: آية 55.
2- سورة حم - السجدة: آية 13.
3- سورة الرعد آية 14.
4- سورة الواقعة آية: 65.