الخوف من الدين

ما المقصود بكلمة: "الدين". هل المقصود بها الجزاء؟ أم الإسلام؟ أم غير ذلك؟ ويمكن أن نرجح أن المقصود بالدين هو يوم الجزاء، لأن ما يخشاه هؤلاء الناس هو هذا الأمر بالذات، وقد قلنا في تفسير سورة هل أتى، في قوله تعالى ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ (القيامة/5) أن الإنسان إذا آمن بيوم الحساب والثواب والعقاب فإن حياته ستنقلب رأسًا على عقب. لأن معنى ذلك هو أن تصبح حركته مقيّدة، وإرادته منقادة لإرادة من سيحاسبه، فيقول له: "اعمل كذا لأثيبك، وإن عملت كذا أعاقبك"، مع أن الإنسان يريد أن يكون مطلق العنان، يعمل على هواه ويمارس ما يحلو له.

إن المشكلة عنده ليست في الاعتقاد بالإله، إذا كان هذا الإله لا شغل له معه. وليس في الاعتقاد بالنبي، إذا كانت النبوة مقامًا، وملكًا، ومنصبًا دنيويًا، همها المال، والجاه، والنساء، وغير ذلك.

وقد كان المشركون على استعداد لأن يعطوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم كل ما يريد، من مال أو ملك، ونساء، وغير ذلك. ولكن بشرط أن لا يقول لهم أن هناك آخرة وحساب وعقاب وثواب، لأن ذلك يعني مصادرة قرارهم، وتقييد حرياتهم، وهـم يريدون أن يكونوا أحرارًا فـي دنياهم ? حسب فهمهم - يدعّون اليتيم، ولا يحضّون على طعام المسكين، ويراؤون، ويمنعون الماعون، وعن صلاتهم يسهون، ويغفلون. ﴿بَلْ يُرِيدُ الْإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ﴾ (القيامة/5).

وربما يكون هذا مرجحًا لأن يكون المقصود بالدين هو الجزاء في يوم الجزاء، ولعل هذا هو بعض ما يرمي إليه الإسلام من اهتمامه بالآخرة، وزيادة يقين الناس بها، فشرّع زيارة القبور، وقال: زوروا القبور تذكركم الموت وقال عن الصيام: " اذكروا بجوعكم وعطشكم جوع وعطش يوم القيامة "، إلى غير ذلك مما يفوق حدّ الحصر. مما يدل على اهتمام الإسلام بربط الإنسان بالآخرة، باعتبارها من أهم أسس الالتزام بالتشريع، وهي الوسيلة الأكثر فعالية في ضبط حركة الإنسان في الحياة، لأن الإيمان بالله أولاً ومن ثم الإيمان أن هناك آخرة ويومًا للحساب من شأنه أن يغيّر من سلوك الإنسان تغييرًا جذريًا يجعل المؤمن لا يستوي مع غيره ﴿أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا لا يستوون.

﴿بِالدِّينِ﴾:

ويبقى هنا سؤال، وهو: أنه لماذا قال: ﴿يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ ولم يقل: "يكذّب بيوم الدين". والجواب: أن التكذيب بأصل الجزاء والدين أشدّ قبحًا وهجنة من التكذيب بيوم الدين. وذلك لأن هذا الأمر يخالف المعايير العقلية والفطرية، لأن معناه: أن يعتقد الإنسان بعدم وجود ضوابط وأسس بنيت عليها هذه الحياة؛ ولذلك لا يجاز المسيء بإساءته، ولا يثاب المحسن بإحسانه، مع أن هذا هو المعيار الأساس فيما يرتبط بتعامل الناس مع بعضهم، ومع الله، ومع كل شيء، لأن تكذيب أصل الجزاء، وأن يكون هناك قيمة للعمل: مثوبة، إذا كان حسنًا، وعقوبة، إذا كان قبيحًا ? إن هذا التكذيب ? إنما يعني هدم أساس الحياة.

وهذا أخطر ما يمكن أن يواجهه الإنسان في حياته. وهو أن لا يبقى هناك ضابطة لما يقوم به، ويصبح عمله منطلقًا من غرائزه، وشهواته، وتخيلاته. وبذلك يصير العمل عشوائيًا، وتفقد القوانين والشرائع الإلهية وكذلك القيم قيمتها، وتفقد حتى القوانين البشرية فعاليتها.

ويسقط كل شيء، ولا يبقى ما يحكم حركة الإنسان وسلوكه في الحياة. ولو أنه تعالى قال: "يكذب بيوم الدين" فقد يُتخيّل أن هذا لا يعني التكذيب بنفس الجزاء، وبالدين، باعتبار أن الجزاء حتى لو كان ثابتًا، لكن ليس بالضرورة أن يكون في الآخرة، فقد يكون في دار الدنيا، وقد يكون فيهما معًا.

كما أن صور الجزاء قد تكون مختلفة، فقد يجازيه بالمرض، أو بالهم، وبالتضييق عليه بالرزق. وقد يكون بالاقتصاص العلني الفاضح، وبغير ذلك.

والخلاصة: أن التكذيب بوجود يوم محدد، يحاسب فيه الإنسان على فعله لا ينافي الاعتقاد بأصل وجود الجزاء. فاليهود يرون أو يرى قسم كبير منهم على الأقل: أن جزاء الأعمال إنما هو في هذه الدنيا، في وادٍ يسمى وادي الهلاك، حيث يتعرض الإنسان فيها لمصائب ومصاعب، أو نحوها. أما الآخرة بما لها من تفاصيل كوجود جنة ونار، وحساب وثواب، وصراط، وشفاعة، وغير ذلك فإنهم لا يعتقدون بذلك.

ولأجل ذلك أحب اليهود هذه الحياة الدنيا كأشد ما يكون الحب، وكانوا أحرص الناس على حياة مهما كانت تافهة وحقيرة وذليلة. ولأجل ذلك أيضًا وضعوا تعاليم تبيح لهم ارتكاب كل جريمة وعظيمة.